مسجد الرابع والعشرين .. الصورة الكاملة / محمد محفوظ الحارث

واحد من أشهر مساجد العاصمة، طارت شهرته في الآفاق، وسمع به الكل، حتى من لم ير العاصمة بعد، من النساء والرجال والولدان، فلماذا نال تلك الشهرة؟، هل لأنه الأضخم عمرانيا؟، أم الأقدم تاريخيا؟ ، أم الأكثر نشاطا معرفيا؟ ....  

لاشيء من ذلك، بل لأنه الأكثر فزعا وحزنا!!!!! فأحزن اتصال ذاك الذي يدفعك للذهاب إليه، وابغض اجتماع ذاك الذي يحدث عنده، حيث سحائب الحزن والأسى والتأسف تتهاطل على القلوب ، لتريق ماء العيون دفاقا تحسرا على فقد الأحبة الذين يسرع بهم إلى مغسلة المسجد، بأعداد هائلة يصل معدلها الشهري إلى 400 جنازة ، يؤتى بها في كل وقت وحين، بكرة وعشيا، ضحى وقيلولة وسحرا ....

عند باب المسجد ترى الآخرة بكل تفاصيلها ..تشاهد بأم عينيك الجنازة تلو الأخرى، فيبصر قلبك التفاصيل الأخروية الدقيقة : خروج الروح من الجسد ..ملائكة رحمة وملائكة عذاب...ظلمة القبر وضيقه .. سؤال منكر ونكير...النار وعذابها..الجنة ونعيمها....

إنه الخروج من الدنيا وإلى الأبد، تلك الدنيا التي تراها عند المسجد أيضا: طابور من الجزارين يبيع شتى وأشهى أنواع اللحم .. بائع الألبان طازجة يترقب من يبتاع منه.. محلات تجارية كبيرة ..مكبر صوت يرتل آيات قرآنية علها تلين قلوب الراقصين ليلا ونهارا في الشقق المفروشة شمال المسجد.. آخر صيحات الموضة في عالم السيارات التي تختلف حمولتها : من جنازة إلى متاع دنيوي متعدد، كما تختلف الأصوات المرسلة منها: من موسيقى صاخبة لأشهر الفنانين، إلى عويل وبكاء حزنا على فقد أعز الأهل والأصدقاء، إلى محاضرات لأشهر العلماء...

في باحة المسجد مواضيع مختلفة، ذوي ميت يبكون فقيدهم ويتحدثون عن تفاصيل مرضه، وزملاء في أقصى الباحة يضحكون من ذكريات الطرف والنوادر ، ورجال كبار يخوضون في آخر المستجدات السياسية، يتحدثون عن الانتخابات والترشيحات والتحالفات، و حديث قبلي وعائلي ، وتساؤلات عن من خضر وغاب، ومن يسافر ويبقى ...

كل يتحدث عن ما يشاء، وكل موضوع مطروح للنقاش، إلا الموضوع الأهم "الموت" ، فبدلا من أن تعتبرها فرصة وتخوض في تفاصيل المصير المحتوم، ليستعد له المسلمون حق الاستعداد، عليك أن تبعد النجعة وتتحدث عن أمور دنيوية محضة، وذلك بحجة داحضة، وهي الحفاظ على مشاعر الناس ، وأية مشاعر تلك التي لا يكسرها واعظ الموت؟، وإن كان كفى به واعظا.

جنائز مختلفة من حيث الأعمار والألوان والأجناس، ذكورا وإناثا، وشبابا وشيبا، ورضع ومراهقين، وأغنياء وفقراء، فالموت لا يستثني أحدا، كما يختلف موكب الجنازة تبعا لمكانة المتوفى،من موكب هائل كبير، إلى مجرد سيارة واجدة فيها بضعة رجال، ولكن الاختلاف الأهم يبقى ذاك الذي يردد الميت : ياويلي أين تذهبون بي ، أو قدموني ..قدموني...

23. مارس 2019 - 10:31

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا