لماذا لم تزهر بعد أوراق الربيع العربي في موريتانيا؟/ محمد المختار ولد محمدفال

محمد المختار ولد محمدفالاستحقت سنة 2011 وبجدارة لقب سنة الثورات العربية دون منازع وتميزت كذلك بكونها سنة المفاجآت علي مستوي الثوابت العربية القديمة، سنة استعاد خلالها المواطن العربي كرامته وكرس هيبته في مقابل أنظمة شيدت علي البطش واحتقار كرامة الإنسان غير المنتمي إلي فضاء الغرب ،

فذاك - لتبعيتهم- مقدس ومحل توقير واحترام، أما الآخرون، فهم مجرد جرذان أو أوباش وسفلة، موقعهم الطبيعي، هو: غياهب السجون أو حقل تجارب يحق فيه لجلاديهم أن يسوموهم سوء العذاب وأن يصبوا عليهم صنوف التعذيب المبتكرة وكل ما يمكن أن ينقص من كرامة البشر، الشيء الذي جعل من السجون العربية، قبلة للحكومات الغربية الراغبة في الإنتقام من أفراد وجماعات عزل، يفترض فيهما هؤلاء أن لا يكونا متماهيين مع الرؤية الغربية للواقع.

وأمام هذا الواقع " الربيعي"، نلاحظ أن هنا ك شعوبا دفعت شلالا من الدم، لتنعم بالحرية وأخري في الطريق، لكن السؤال الملح، هو: إذا كان وضعنا في موريتانيا يمثل النموذج الأسوأ، فلماذا لا يكون رد فعل شعبنا هو الأبرز والأسرع والأكثر فعالية، ضمن الحراك العربي الذي أبهر لعالم وانطلق كالمارد من قمقمه؟ نحن نعرف أن الموريتانيين قد التقطوا الخيط مبكرا ودفعوا برأس النظام ليعيش رهابا، يشاع أنه لازال يلازمه حتي اليوم، لكن الجميع فوجئوا بسرعة انهيار هذا الربيع عند أول إماءة من السلطة وبهتوا بفعل تسابق " ثوار الربيع الموريتاني" إلي قطف الحصاد قبل أن يتم البذر وبتساقطهم – كالذباب- علي مائدة النظام .. ثوار باعوا مستقبل وطنهم بدراهم معدود وكانوا فيه من الزاهدين.. فأصبحنا نعيش ثورة بلا ثوار واعتقد " ثوارنا الشجعان" أنهم بهذه الخطوة " الأشعبية" قد دخلوا الربيع العربي من بابه الواسع، بمجرد أن تحدثوا عن الموضوع داخل صالونات نواكشوط أو بوقوف مئات منهم في ساحة" بلوكات" فتقاتلوا علي حق استنساخ شهادة الميلاد لمولود لا توجود دلائل مؤكدة علي وصوله مرحلة التخلق أصلا، فأصبح "ثوارنا" يتوسلون للمجهول بأن يثور نيابة عنهم ويطالبونه بدفع الثمن، لينعموا هم بجميع فضائل الثورة ومزاياها وليصبحوا بفعل فاعل ضمن " صناع الربيع العربي" بامتياز وجدارة ولينعت بلدنا من جديد بأرض المليون ثائر.

التاريخ يفرض نفسه هناك حقيقة تاريخية يجب أن لا نغفلها، تتمثل في أن هناك حيزا جغرافيا واسعا من هذا الوطن ظلت التضحية فيه بالنفس، اختصاصا لقلة رأت فيه مجدها ومصدر عزها وافتخارها ولم يرغب أي طرف محلي منافستها علي هذا الدور، بفعل تقاسم ثنائيتي: " السيف والقلم" فالغالبية داخل هذا الحيز فضلت السلامة علي دفع ذلك الثمن الصعب اختيارا أو اضطرارا.. المهم أن للديار جماعة بعينها هي المسئولة عن حمايتها، وهي مهمة تصدت لها الدولة اليوم وظلت تحتكر مسؤوليتها لوحدها.. أما الشق الآخر من الوطن فقد جمع بالمجمل بين السيف والقلم ، لكنه ظل يستبطن شعورا بالتهميش والإقصاء بعد ظهور الدولة الوطنية، وبالتالي فقد يتصرف لا شعوريا ضمن منطق: فليدافعوا هم عن دولتهم ما دامو ا وحدهم هم المستفيدون منها.. ونفس الشيء يمكن أن ينطبق علي الفئات الأخرى التي تجاهر بأنها مهمشة وبالتالي فهي لهذا السبب قد تري أنها غير معنية بالتضحية لوطن يستأثر به آخرون منذ إعلان الدولة وحتي اليوم. هذه هي الخلفية التي قد تفسر جزءا من المشهد وتساعد علي فهم شق من الواقع وقد تظهر جوانب من المسكوت عنه أو المغيب في الخطاب السياسي المسكون اليوم بمضامين هامشية تزيد الواقع ظلمة وضبابية، دفعت بالبعض إلي اعتزال السياسة والنفور من الاهتمام بهموم ومشكلات الوطن، لذا خسر الوطن طاقات مهمة وخسرتها المجموعة الوطنية أيضا، وحصل تذبذب في البوصلة بفعل غياب مدلول موحد لمفهومي المواطنة والوطن.

الأصيل والمقلد عندما ننظر إلي هذا الوطن بحدوده الجغرافية الحالية وبطبيعته الديموغرافية القابلة للإستغلال، نجد أنه مجرد بناء شيده المستعمر وحماه وغذاه بالرضاعة الإصطناعية حتي وصل إلي مرحلة الحبو، ولم يسمح له بعد ذلك بالتقدم في النمو الطبيعي ولا بوضع يتصالح فيه مع ذاته، أو يكرس نموذجا للحكم من اختياره، بل ظل هذا المستعمر يتحكم في كل صغيرة وكبير داخل بلدنا، كما كان أكبر راع لسلسلة انقلابات عسكرية، حرمت البلد من الاستقرار أو الخيار الحر فأصبحت مقدرات البلد دولة بين حفنة تعد علي أصابع اليد، وأجبر البلد علي التكلس في منزلة بين المنزلتين علي مستوي الانتماء الحضاري وطبيعة التوجه السياسي والثقافي وحتى الاجتماعي، فلم يسمح للسفينة بالغرق ولم تمكن من عوامل النجاة ، الشيء الذي انعكس علي النفوس وشوه الرؤية وميع المواقف، فأصبحنا نعيش ضمن نموذج مستحدث يلغي القبلية ولا يستغني عنها ويدعي الشمولية في خطابه المعلن ويكرس الفئوية والعائلية والجهوية علي مستوي التطبيق والممارسة العملية، الشيء الذي أوجد واقعا قد لا نجد تفسيرا له إلا عند علماء النفس، يتمثل في تداخل مفهوم الوطن مع الأبعاد الجهوية والعالمية، لدي المجموعة الوطنية التي لم تعد تبحث عن الخلاص إلا في الخارج وصارت تتجاهل علنا مقومات الداخل، والنتيجة هي : مواطنون يعرفون عن الخارج أكثر مما يعرفون عن بلدهم ويجاهرون بولائهم للآخر، دونما حرج أو مواربة ويفاخرون علنا بتشبثهم بهذه البدائل " غير الوطنية"، فأصبحنا أمام واقع لا يصدق : وطن بلا مواطنين ودولة لم تعرف صيغة الجمع في قراراتها، حكوماتها أبدلت التخطيط، بالإرتجالية عند مواجهة المعضلات الجوهرية، لذا همشت الكفاآت الوطنية وترسخت التبعية العمياء للقوي الغربية وساد الإندفاع الرسمي لتلبية مصالح الأجنبي وإعطائها الأولوية علي حساب المتطلبات الوطنية، لذا ظل هذا الغربي يمثل الرقم الصعب في المعادلة الداخلية- رغم التباهي الرسمي بمقولة: "الإستقلال الوطني" وضجيج ذكراه السنوية، فعاش المواطن تغييبا واضحا للمصالح الوطنية ولمرجعية المواطن، الشيء الذي دفعه إلي أن ينطلق هذه المرة - ولو متأخرا- ليقول لا لهذا الواقع الظالم، لكننا نفاجأ جميعا بإصابته بالشلل خلال ثوان من الحبو.. إنها مفارقة الواقع الموريتاني وخصوصية هذه الربوع البرزخية التي تبدو مشوهة عندما تظهر في ثوب غير ثوبها المعروف وتتبدى هزيلة عندما تؤاكل الآخرين بيد غير يدها.

عوامل التغيير الضاغطة وكوابحها المعطلة قد يبدوا الحديث عن مسوغات الثورة في موريتانيا اليوم، نوعا من تحصيل حاصل وتبيان لما هو معروف سلفا من فقر مدقع استوطن هذه الدولة وتفاوت في الفرص تكرس فيها منذ نشأتها وتوقف لقطار التنمية عند أول محطة وغياب أي أفق لعدالة حقيقية أو تداول سلمي علي السلطة وانعدام أي خطاب سياسي ينطلق من حقائق التاريخ وواقع الجغرافيا ومتطلبات المرحلة، إلا أنني سأتطرق إلي جوانب أراها ضرورية لفهم الحالة الموريتانية، التي تربك البعض وتتبدى له اليوم وكأنها داخل حلبة الربيع العربي وخارجه في نفس الوقت. الراغبون في الثورة عاجزون عن التحرك والموالون للنظام يتملكهم شعور بتهديد جدي لا يعرفون كنهه، لكنهم يحسون بوجوده وتتكشف لهم شيئا فشيئا بعض تجلياته. ولفهم هذه الحالة، فإنه من الضروري تشريح الواقع الموريتاني لفحصه ومعرفة الميكانيزمات المتحكمة فيه، وتوضيح العناصر المؤثرة فيه علي القرار السياسي والقادرة علي توجيه دفة الحكم، والمتمثلة فى : 1- العسكر وحضوره السياسي الراسخ. 2- رأس المال وجشعه المتفاقم. 3- الغرب وهيمنته المتجذرة والتي بموجبها استحوذ علي الثروة الوطنية ووجه الخيار الوطني وبفضلها أيضا صار حكما بين جميع فرقاء السياسية " الوطنية". 4- الجوار الحدودي والفضاء الجهوي الذي ينساب مفعوله داخل الجسم الوطني ويتسرب إلي المسام كما يتسلل الهواء داخل الأماكن المفتوحة. 5- وبدرجة أقل نجد تأثيرا للجوقة القبلية المعروفة بولائها الأعمى للسلط الحاكمة في البلد والتي لم تقف في يوم من الأيام موقفا غير متناغم مع هذه الأنظمة، بل إنها تري في النقيض خطيئة تهز الجبال أزا.

أما اللاعبون الثانويون، فيمكن إجمالهم في ثلاثة عناصر، هي : أ- المجتمع المدني: فعند ما نلقي نظرة خاطفة علي الأحزاب السياسية والصحافة الخصوصية والنقابات والمنظمات غير الحكومية، سنكتشف أنهم جميعهم مجرد ظاهرة صوتية، تستغل كأرقام لخدمة الأنظمة الحاكمة أو تمتطي كأدوات يستخدمها بعض الأفراد وبعض الفئات، من أجل الحصول على فتات من الكعكة الوطنية. ب- أما " النخبة"، فهي غثاء يستغل من طرف هذه القوي المتحكمة وتستقوي هي بأحد هذه العناصر أو ببعضها أو هي مجتمعة ويزداد نفوذ أحدهم، بقدر ما يجمع من تبعية لواحد من هذه الميكانيزمات المؤثرة.. إنها طبقة سياسية بعيوب خلقية مشوهة الشكل والمضمون ومشوشة في الرؤية والوجهة، فقدت مشروعيتها، لولائها - في المجمل- للذات قبل الوطن ولتغليبها للمصلحة الخاصة علي العامة. ج- الأبعاد العرقية والفئوية: فهذه رغم جذوتها المتوثبة وضبابية تماسكها الواضحة، إلا أنه ليس هناك من هو قادر أو مستعد أصلا لاستخدامها بكامل طاقتها. وبالرجوع إلي أدوات التحكم- الأساسية والثانوية هذه- في مجريات الأمور بالبلد، يمكننا توضيح فاعليتها وتأثيرها علي النحو التالي:

*** * تتمثل أولوية العسكر في: تكريس سلطته وبالتالي همه الأساسي أن لا ينازع أحد هذا الأمر أهله، أما مادون ذلك من فتاة، فهم مستعدون لتقديمه، شريطة أن لا يكون هناك شيء إسمه: من أين لك هذا؟ أو تكرس المحاسبة أو النقد الهادف أو المشاركة في القرار من طرف أي جهة داخلية كانت، أما القوي الدولية المؤثرة فلها منهم واجب الطاعة والتوقير، لاستدرار حنفيات الصناديق الدولية ولاستمرار فتات المساعدات الثنائية ولتجنب غضبتها في مجال الحريات وحقوق الإنسان. فالمهم عند من يأتي علي ظهر الدبابة، هو: رضي الغرب وضمان الانصياع الأعمى والخضوع المذل في الداخل.. أما الكفاءة والخبرة والوطنية، فتلك سلعة متروكة للاستهلاك الكلامي. *** * وبخصوص أصحاب النفوذ المالي والفاعلين الإقتصاديين: فأولويتهم تتمثل في هدفين محددين، هما: الربح الوفير وضمان السلامة الدائمة، كما أنهم يخافون الشفافية ويمقتون الأضواء الكاشفة، أفق نشاطهم محكوم برؤية تقليدية، خالية من أي إبداع، ويمتاز بسكونية تشل المقدرات ولا تقيم وزنا بالضرورة للمصالح الوطنية وهؤلاء لا يعيشون اليوم مرحلتهم الذهبية علي مستوي الإنسجام الداخلي أو المردود الربحي.

*** * أما الغرب فلا يهمه من بلدنا هذا -كغيره- سوي ضمان الاستئثار بخيراته وارتهان قراره الوطني له، في مقابل تبنيه لمظهر مزيف للديمقراطية، يتجلي في: تمييع الحياة السياسية بحياة حزبية مدجنة، قابلة لأن تكون في المجمل – إلا من رحم ربك - جزءا من دكاكين العهر السياسي وصحافة تابعة وكسيحة تأكل بثديها وتسبح بحمد الحاكم، بالإضافة إلي عملية انتخابية هزلية، تسمح بتناغم أصوات جوقة التصفيق والنعيق، بديلا عن الحركات السياسية التي كانت فاعلة ومؤثرة قبل نهاية القرن العشرين و التي تحولت اليوم بفعل عوامل موضعية وأخري ذاتية - وبفعل الضربات المتتالية والإختراقات المدمرة- إلي قطط أليفة متضعضعة وغير فعالة. *** * الجوار الحدودي والفضاء الجهوي: إنه الجهة البالغة التأثير والفاعلية علي مجريات الأمور عندنا، عليه تستند كل العواصف التي يراد لها أن تنسف الإستقرار وتهدد الوجود، أو من خلاله تحمي السفينة عندما يواجهها الخطر أو التهديد الجدي، فهو طرف بالغ التأثير وعلي شاطئه ترسوا السفينة، ويمكنه أن يشكل خطرا ماحقا عندما لا نحسن التدبير، أو داعما للإستقرار والتنمية، عندما يسوسنا ربان ماهر ومتبصر. ***

* الجوقة القبلية: وهذه تنطلق من مبدئين أساسيين، هما: واجب الطاعة للسلطة وضمان الحصول علي نصيب من الكعكة الوطنية لمن استطاع إلي ذلك سبيلا. إن تكريس هذا الدور السياسي للقبيلة- التي تمثل تركة اجتماعية نابعة من مرحلة "ما قبل الدولة"- قد دشنه المستعمر الذي رآ فيه أفضل عون له علي إدارة دفة هذه المستعمرة المترامية الإطراف وشبه الفارغة من السكان، واستغلته لاحقا الأنظمة السياسية المتعاقبة، الشيء الذي أدخلها في أتون السياسة وفي لعبة المساومات المصلحية ، مما فجرها من الداخل، بفعل كثرة العارضين له في سوق النخاسة السياسية، وبفعل العبء الذي تبين لاحقا أنه كان أكبر من طاقتها، لذا أفلست أخلاقيا كما أفلس تجارها ورموزها المحليون " وألئك " النخبويون".. فرغم مكابرتهم إلا أنهم أصبحوا يدركون المنقلب الذي إليه سينقلبون. *** * الأحزاب السياسية والصحافة الخصوصية والنقابات والمنظمات غير الحكومية، فهذه كلها عبارة عن ظواهر استعراضية، تستخدم للضجيج الإعلامي وللمزايدات الكلامية ولإبراز مواقف سياسية. فرغم تصدرها جميعا للمشهد السياسي وللحراك الإجتماعي، إلا أن تأثيرها ظل هامشيا ودورها مجرد مكمل، يصلح للإستغلال السياسي ولتسجيل نقاط ضد الخصم السياسي، الشيء الذي حرم البلاد من وجود يمين ويسار ووسط، فاليساري قابل لأن يصبح يمينيا عند أول محطة ونفس الشيء بالنسبة لمن يفترض أنهم يمينيون. فمن وجد نفسه منبوذا من أي نظام سياسي يصبح يساريا - حتي ولو كان من أعتي الجلادين ومن أشره مصاصي الدماء في السابق ومن وجد حظوة لدي أي نظام سياسي- مهما كان- يصبح أول متنكر للضعيف وللمضطهد وأشره آكلي المال العام. والأدهي من ذلك أننا أمام واقع لا يمكننا من خلق طبقة وسطي ملتزمة وقادرة علي قيادة التغيير، ويحرمنا كذلك من ساسة وسطيين يشغلون المنطقة الرمادية بين اليمين واليسار، عندما ننعم يوما ما بطبقة سياسية جادة ومسئولة. *** * أما الأبعاد العرقية والفئوية فهذه تمثل "التابو" الذي ظل يخضع للمجاملة السياسية ولم يشأ أي طرف سياسي اتخاذ موقف جدي منه نابع من القناعة ومعبر عن الموقف الصميمي، باستثناء حالة أو حالتين، فهذا الجانب وحده ظل خاضعا للمزايدات السياسية واستخدم للتأثير علي الحكومات، بغية الحصاد السريع للمكاسب السياسية، فرغم التوجس الذي يصاحبها عادة لم تشكل أداة للتغيير، بل أصبحت عائقا له في بعض الأحيان- مثلما هي اليوم- كما أنها شكلت أفضل أداة في يد الأنظمة السياسية للإنتقام أو للإخضاع أو للإستقطاب.

هذا الواقع الذي شكل فسيفساء مربكة وعجينة متفردة، مثل "خلطة" جمعت كل النقائض علي مستوي الخطاب الرسمي وهوية الدولة الوطنية. فباسم الحفاظ علي الهوية تم تبرير صداقة الكيان الصهيوني"لحماية هذه الهوية العربية الإسلامية" وباسم المصالح العليا للوطن: أصبح المال الحرام بديلا عن المبدأ وانشغل الساسة بتعزيز غنائمهم المجزية وباسم خدمة الفقراء ومحاربة الفساد، أصبح أغني رئيس عرفته موريتانيا هو " المدافع الأول عن الفقراء" ويلقب نفسه ب: " رئيس الفقراء". ففي ظل هذا الواقع المقلوب، ظهرت طبقة من المنتفعين الجدد، وسادت حالة من الرخاء الكاذب غير المسبوق، شلت الفاعلية وميعت الحياة العامة والخاصة وكرست تداخل العام مع الخاص. فإذا كانت الحركات السياسية التي عرفتها البلاد خلال العقود الأخيرة، مثلت تعبيرا صادقا عن الحراك الداخلي وعن التوجهات الفئوية وعن المطالب التي كانت وقتها مشروعة وشكلت توجهاتها -افتراضا- مشاريع لمجتمع أو خيارا لوجهة مرغوبة، فإن الواقع الملتبس الذي ظهر علي أنقاضها والذي تمخض عنه مستنقع متعفن أفرز لنا أغسطس بنسختيه، والذي مثلت الأولي منهما: محاولة لتجميل الصورة وقدمت لصالح ذلك رؤية وخطابا مقبولين- رغم أنها لم تتخلص من مناخ المرحلة الطائعية، لذا تمخض عنها نموذج للحكم غير مسبوق، بدت خلاله مؤسسة الرئاسة لأول مرة في تاريخ البلاد، هامشية وهزيلة وخارجة عن السياق العام، انتهي هذا النموذج مبكرا بفعل مواجهة بين هذا الرئيس و"حارسه الشخصي" – وهي مفارقة عجيبة- حيث ظل ميزان القوة السياسية والعسكرية خلالها لغير صالح رئيس الجمهورية المنتخب بشفافية، فجاءت النسخة الثانية من أغسطس وقدمت نفسها علي أنها قادرة علي أن تأتي بما لم يستطعه الأوائلوا، إلا أنه سرعانما انقشع الغبار لاحقا عن نسخة باهتة من نظام ولد الطايع، غابت عنها الجوانب الإيجابية المحدودة التي نعم الناس بها خلال فترة حكمه الطويلة وحازت كل سلبياته: "الطابع القبلي والعائلي في الحكم والنفور من الشفافية واستخدام المال العام في المنافسات الإنتخابية وتسخير موارد الدولة ومناصبها، لضمان مصالح النظام علي المستوي الداخلي والدولي وغياب مواقف جدية للحكومة علي المستوى الخارجى، والإعتماد علي نخبة باهتة تجيد النهيق والتصفيق ولها فيه باع طويل، نلاحظ أنها لا زالت تمارس اليوم مهنتها القديمة - رغم فشل هذا النظام في تقديم الطعم الكافي والمضمون المنطقي والوجهة الواضحة، لذا كانت النتيجة ظلمة في ظلمة وتخبطا في تخبط وتآكلا أربك الجميع وجعل هذا النظام يبدوا وكأنه يعيش شيخوخة مبكرة، بفعل عجزه عن الخروج من شرنقة سياقه التاريخي ونموذه الوحيد الذي عايشه رأسه طويلا من الداخل وقد يكون هو النموذج الوحيد المتبلور في ذهنه.

لماذا لم تزهر بعد أوراق خريفنا؟

من المسلمات التي اتفقت عليها البشرية جمعاء، أنه لا حصاد إلا بعد البذر، لذا لا يمكن توقع أي خريف سياسي في ربوعنا الجرداء أصلا، إلا بعد سعي حثيث وشاق يمكننا من استنبات الزهور في رمالنا المتحركة، لأن المعجزات هي: خصوصية للرسل الذين ختموا منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة وهي مدة كافية، لنصحوا - كموريتانيين- من حلم يقظتنا الذي هيمن علي العقول وران علي القلوب، فلا حصاد إلا بعد البذر ولا شهد إلا بعد إبر النحل، ولا يمكن أن نحمد إلا بما نفعل. ومع ذلك فأنا لا أشكك في صدق رغبات الناس وفي حجم أمانيهم لوطنهم، لكنني واثق أيضا أن مجمل أحلامهم في الثورة وفي التغيير الشعبي السلمي- ضمن الشروط الحالية- هي مجرد أضغاث أحلام، فخطاب المتفائلين يمدنا فعلا بصور ذهنية ممتعة، قد تغري خيالنا بسيل من التوقعات الإفتراضية أو المحتملة، وقد تدفع بنا إلي حالة من الإدمان المرضية – ممكن أن يكون بعضنا اليوم في حاجة ماسة للبحث عن علاج لها- بحيث تبدوا كمقدمة لشيء نريده ونرغب فيه، لكننا في نفس الوقت نخاف منه ونتهيبه. إنها مفارقة الواقع الموريتاني الذي يسمح لكل شخص أن يكون كل شيء ولا يزن جناح بعوضة عند أحد في نفس الوقت، فنحن في وطن النقائض والمتناقضات، فيه ينعت ناس بأنهم ثوار وهم نائمون في بيوتهم وفيه يبني واقع افتراضي بديل عن الواقع الحقيقي وهو ما أدي بالخاصة اليوم إلي العجز عن تصنيفه أو تحديد معالمه، وفيه يتبوأ اللص أعلا مكانة وفيه يمكن لأي شخص أن يصبح وزيرا وخبيرا ومثقفا وصحفيا ومهندسا وهو عمليا أمي لا يكتب ولا يقرأ ولا أحد يفصح علنا أن في الأمر غرابة. ومن مفارقات هذا التفرد، أننا نعيش اليوم تجربة سياسية تتداخل فيها المفاهيم وتنعدم فيها الوجهة الواضحة، الداخل في الموالاة كمن يبتلعه ثقب أسود لا يري له أثر ولا يعرف له موقع، نار النظام جنة وجنته نار، وهي وضعية أظهرت البلاد وكأنها تترنح بدون ربان، تواجه الأمواج العاتية بدون مجداف ولا وجهة محددة، تقذف بها الأمواج العاتية إلي أعلي فتنكشف للعالم جميع المسامات والفتحات التي بتسرب الماء منها يسهل إغراقها، وتهبط بها هذه الأمواج أيضا، لتنزوي في عزلتها، كل هذا يحدث والمواطن يتفرج ولا يحرك ساكنا، لأنه يري أنه لم يعد شريكا مقبولا في شؤون بلده، كما الجار الإقليمي كذلك فهو أيضا لم يعد مصدقا لما تراه عيونه فأصبح يتساءل هل هذه هي موريتانيا حقا؟ أم أنها موريتانيا الجديدة التي يتحدث عنها هذا النظام الذي يدير البلاد الآن؟ هذا هو وطننا الذي نريد إنبات أزهار المتوسط علي رماله المتحركة وهذا هو بلدنا الذي نريد تخليصه من أنياب اللصوص والسفلة والرويبضة وما شاكل، فهل يمكننا رغم هذا الواقع المر أن نكون جزءا من الركب العربي ونفتخر بأنه في أرض المليون شاعر، هناك أيضا مليون ثائر ومليون وطني ومليون صادق مع النفس ومع الخالق؟ هل نمتلك الشجاعة والوسائل حقا وهل نحن ننتمي فعلا إلي فصيلة الإحرار في هذا العالم؟ لا شك أن مقولة " في الجماهير تكمن المعجزات" هي: لشاعر موريتاني لا زال بحمد الله حيا يرزق بيننا، يصارع الظلم ويكافح الفساد، كما أن شعبنا ما زال يختزن الكثير من أصحاب الضمائر الحية، ولا زلنا جميعا نتذكر يوم ملحمة" شالوم" التي سطرها شبابنا الجامعي في نواكشوط، كما أن ماضينا البعيد يؤكد رسوخ التضحية ورفض الضيم وحجم الإباء داخل شعبنا، الذي ظلم كثيرا وآن له أن يقول كلمته النهائية اتجاه الفساد والإستبداد والتهميش واللاعدالة وغياب أي أفق جدي للتنمية. وهنا تتضاعف المسؤولية الأخلاقية اتجاه ساكنة بلد دفعت بهم الرغبة في الحرية تاريخيا إلي الإنزواء في هذا المنكب البرزخي، خوفا من الخضوع لغير لله الواحد الأحد، لكن الحقيقة المرة تتمثل في أنه - رغم مبررات ظهور الربيع العربي في موريتانيا قبل غيرها- إلا أنه إنجاز يستحيل أن يقوم به: التجار الباحثون عن الربح ولا القبائل التي استمرأت التبعية والخضوع ولا النخبة التي صممت حياتها لتجيد تقبيل أرجل جلادي الشعب ومصاصي دمائه ولن يقوم بها الخارج قطعا نيابة عن الداخل، كما أنه فعل أنبل من أن ينجزه شباب يتساقط – كالذباب- علي موائد السلطان. فما لم نغير ما بأنفسنا فلن يغير الله حالنا وأحوالنا وما لم نصبح شعبا متراصا حول الحقوق والواجبات المشتركة، نتوحد خلف قيادة جامعة، ونتبني مشروعا نتفق عليه لصالح وطن نجمع علي أن لا بديل لنا عنه، فلن ننعم بأي ربيع وسنبقي نائمين في سباتنا الشتوي ضمن فضائنا البرزخي، حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا. وفي انتظار طلوع الفجر الموريتاني، تصبحون علي ألف ربيع.

15. يناير 2012 - 9:32

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا