أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين بلادنا والصين سنوات قليلة بعد الاستقلال، وتحديدا في 19 يوليو1965، ومنذ ذلك الحين وهذه العلاقات تسلك مسارات متباينة للتطو، ففي الجانب الدبلوماسي ظل البلدان يتبادلان الدعم الثابت في القضايا المتعلقة بالمصالح الجوهرية لكليهما، كما تتفق وجهات نظرهما حيال الكثير من القضايا المطروحة على الساحة الدولية.
أما العلاقات الاقتصادية التجارية التي بدأت مبكرا بعد توقيع البلدين على اتفاقية التعاون في المجال الاقتصادي والتجاري سنة 1967، وحافظت طيلة الثلاثين سنة اللاحقة على شبة استقرار في حجم التبادل التجاري بين البلدين بمعدل سنوي يترواح بين 10 إلى 30 مليون دولار سنويا، وكانت 2004 سنة فارقة في تاريخها، حيث قفز حجم التبادل التجاري لأول مرة إلى مستوى 100 مليون دولار بسبب بدأ إستيراد الصين لخامات الحديد من بلادنا، وخلال عشر سنوات فقط تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 20 ضعفا، حيث بلغ سنة 2013 أكثر من ملياري دولار. هذه العلاقات بدأت تأخذ منعطفا جديدا يتسم بالضبابية والفتور خاصة في المجالين الاقتصادي والاستثماري بعد أزمة انهيار أسعار خامات الحديد سنة 2014، وبعد دخول الصين في معركة إعادة هيكلة اقتصادها والارتقاء به، وبعد إعلانها عن نسختها للعولمة " مبادرة الحزام والطريق"، التي من خلالها تحقق نمطا جديدا من الانفتاح أكثر على العالم الخارجي، ونكتفي اليوم بذكر ثلاثة مؤشرات على ذلك، وهي :
(1)
إختلال في العلاقات التجارية
تكشف الأرقام الرسمية الصينية عن حجم الإختلال الذي طرأ على العلاقات التجارية بين البلدين، بحيث تحولت الصين من أكبر مساهم في تنامي الفائض التجاري لصالح بلادنا إلى أكبر مساهم في تفاقم العجز التجاري الإجمالي الوطني، حيث تشيرالبيانات الرسمية الصينية إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ سنة 2013 حوالي 2.34 مليار دولار، موزعة على 600 مليون دولار واردات، و1.74 مليار دولار قيمة صادرات بلادنا، وهذا ما يعني تحقيق فائضا في الميزان التجاري لصالح بلادنا بلغ حوالي 1.14 مليار دولار. كما تشير بيانات أخرى إلى أن حجم التبادل التجاري بلغ سنة 2018 حوالي 1.988 مليار دولار، من بينها 861 مليون دولار قيمة صادرات بلادنا، و1.037 مليار دولار قيمة الواردات، وهذا ما يعني حدوث عجز في الميزان التجاري بقيمة 176 مليون دولار. إن حجم الإختلال في العلاقات التجارية مع أكبر شريك تجاري لبلادنا الذي أصبح منهكا للاقتصاد الوطني قد يكون له دور في ارتفاع الدين الخارجي، وتخفيض قيمة العملة الوطنية خلال الخمسية الأخيرة.
(2)
الحضور الحذر في مشروع القرن
على الرغم من أن بلادنا وقعت رسميا على مذكرة التفاهم للتعاون مع الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق مطلع سبتمبر 2018 خلال زيارة فخامة رئيس الجمهورية للصين للمشاركة في منتدى التعاون الصيني الإفريقي، إلا أنها مازالت تنظر إلى هذه المبادرة بعين الريبة والحذر، ولازالت واحدة من أقل شركاء الصين في المنطقة نشاطا في هذه المنصة الجديدة للتعاون مع الصين، وقد جاء انضمامها متأخرا خمسة سنوات بعد الإعلان عن المبادرة، كما أنها حتى الآن لم تنضم وتصبح عضوا في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، هذا بالإضافة إلى عدم بلورة رؤية وطنية تتقاطع وتتلاقى مع المبادرة، وعدم المشاركة في المنتدى الدولي الثاني للمبادرة المنعقد في بكين نهاية إبريل المنصرم، والذي تمخض عن التوقيع على 283 مشروعا على المستوى العالمي بقيمة 64 مليار دولار كان نصيبنا منها معدوما.
(3)
تراجع الاستثمارات المباشرة الصينية
منذ سبعينيات القرن الماضي بداية دخول الشركات الصينية إلى السوق الموريتاني لتنفيذ مشاريع الدعم الحكومي الصيني والعلاقات الموريتانية الصينية في مجال الاستثمار تتطور وتتعزز، وهذا ما تمت ترجمته خلال العقد الأخير إلى شراكات استثمارية كبيرة خاصة في مجال صيد الأسماك ومعالجتها، كما أن حضور الشركات الصينية في مجال المقاولات كان قويا إلى درجة أن سعادة السفير الصيني لدى بلادنا سبق وأن ذكر مارس 2017 "أنه يتردد على لسان القاصي والداني في بلادنا مقولة يمكن رؤية مشروع صيني في كل كيلو متر من مساحة موريتانيا".
لكن اليوم وعلى الرغم من ضخامة حجم الاستثمارات الصينية المباشرة في شبه المنطقة إلا أن نصيب بلادنا منها كان محدودا جدا قدرته بعض المصادر بحوالي 29.55 مليون دولار خلال 2018، والأهم من ذلك أن مساهمة الشركات الصينية في تخفيف البطالة محليا مساهمة ضعيفة لا تتماشى وحجم مشاريعها واستثماراتها، كما أنها لم تنجح حتى الآن في خلق قناة لنقل الخبرات والتجارب إلى الكوادر الوطنية. رغم ذلك نشير إلى مشاريع هامة تحت الدراسة قد تكون تعكس الاستراتيجية الصينية اتجاه بلادنا وتشكل نقلة نوعية في علاقات البلدين في المستقبل، على سبيل المثال: ميناء في المياه العميقة في مدينة انواذيبو، ومشروع فم لكليته لإنتاج السُكر، ومشروع الصرف الصحي لمدينة انواكشوط، وغيرهم.
إن صمود العلاقات الثنائية بين البلدين أمام كل تقلبات الوضع الدولي على مدار أكثر من نصف قرن يعتبر ثمرة دبلوماسية، كما أن تفاقم عجز الميزان التجاري، ونقص تدفق الاستثمارات نتيجة مباشرة لتعثر العلاقة الاقتصادية، ومن أهم الأسباب في ذلك النظر إلى الصين من خلال العيون الغربية، وعدم مواكبة بلادنا لما يحدث داخل الصين من تطورات، فالصين ما بعد 2013 تختلف كليا عن الصين ما بعد 1978، وستختلف جوهريا عن الصين ما بعد 2021 ، ومع ذلك يبقى تطوير العلاقات معها خياري استراتيجي لبلادنا طويل الأجل يستند على تاريخ حافل بالتعاون الدبلوماسي، وقد حدد مقال سعادة السفير الصيني لدى بلادنا المنشور في جريدة الشعب مؤخرا مسار تلك العلاقات و آفاقها المستقبلية بربطها بمشروع القرن الذي يؤسس لمستقبل اقتصادي عالمي تشاركي؛ وهذا ما يجعلنا مطالبين بالتكيف مع الصين ما بعد 2013، ونتطلع إلى تعميق العلاقات مع الصين ما بعد 2021، ولن يتسنى لنا ذلك إلى من خلال مواكبة ومسايرة سياسات تعميق الإصلاح والانفتاح التي تنفذها الصين حاليا، وتتيح فرصا تنموية ل لا تعد ولا تحصى، السياسات التي يجب أن تكون مرتكزا لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وإطارا عاما للرؤية الوطنية التي تتقاطع وتتلاقى مع مشروع القرن " مبادرة الحزام والطريق"، الرؤية التي تركز على خمسة مجالات رئيسية نعتقد أنها قد تشكل فرصا للتكامل بين البلدين.