يُروى أن الأمير أحمد محمود ولد لمحيميد عند ما فتح الحوض في آخر أيام "مملكة أولاد امبارك" واستولى على سلطنة "أهل هنون امبهدل" وكانت مملكة الحوض من أعظم ممالك البلاد بخصب أرضها، وبذهبها الوافر، وبثقافتها وتاريخها أيضا؛ فإنه لما استتب له الأمر عقد مجلس ملك دعا إليه في بلاطه حاشيته وقادة جنده وأعيان ساكنة الحوض، ولما حضروا توسم الحكمة في شيخين جليلين كانا من أقرب مقربي بلاط أهل هنون امبهدل، فقال لهما ما مضمونه:
- لقد من الله عليَّ بملك هذه الأرض، وجعلني خليفته فيها، فإن أحسنت فقد أحسنت لنفسي، وإن أسأت فعليها؛ وإن الذي أعطاني هذا الملك قادر على أن ينزعه مني ويعطيه لغيري؛ فهو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. ولأن العدل هو أساس الملك، والله يأمر بالعدل والإحسان، فإني قررت أن أكون عادلا ومحسنا. ولكي أكون كذلك أريد أن أكون على بينة من سيرة ملوك الحوض من قبلي. ولذلك كله فإني أسألكما - أيها الشيخان الجليلان، وأريد منكما أن تصدقاني- عن سيرة من كانوا قبلي.
عندها نهض أحد الشيخين مستبقا قِرنه وقال:
- "بئست سيرتهم، أيها الملك العادل الجواد الهمام المظفر... (همس واستغراب واستنكار من بعض: أولم يكن يمدحهم بهذه الصفات بالأمس؟! وإعجاب وتصديق من بعض) لقد كانوا أجلافا، قاسية قلوبهم، وظلاما لرعيتهم وجبناء وبخلاء... وإننا لنحمد لله الذي أراحنا منهم وأنعم علينا بطلعتك الميمونة، وحكمك الرشيد، وأخذ ينشئ وينشد زجلا حسانيا في مدح الأمير أحمد محمود! الذي كان ينظر إليه متفحصا، وأطال في مدحه والثناء عليه!
ولما جلس، نهض الشيخ الآخر، وقال: "أصلح الله الأمير، كان أمراء أولاد امبارك مثالا في النبل والفروسية والشجاعة والكرم والعدل والإحسان والرحمة، ووالله الذي لا إله إلا هو، لنعم القدوة التي تحتذى والأسوة التي تتبع (تهامس الحضور: هلك الشيخ، سيقطع الأمير رأسه لا محالة!)... ولم يجلس؛ بل أخرج "تيدنيته" (عوده) من كمه وأخذ يعزف "اسروزي" ويحكي وينشد اتهيدين أولاد الفحفاح... ولما فرغ منه أخذ يحكي اتهيدينة من إنشائه تثني على الأمير أحمد محمود وتنوه بشجاعته وحلمه وكرمه وعدله.. إلخ، جعلت بعض المتهامسين يجدون فيها أملا يشفع له حتى لا تقطع رأسه... وظلت الحيرة تخيم على وجوه الجمع الكريم، وكان ترقب ردود فعل الأمير سيد الموقف!
أطرق الأمير أحمد محمود مليا، ثم رفع رأسه وكله جد وصرامة ومهابة وبأس وقال:
أيها الشيخ المتكلم الأول، شكرا لك! (أهيه ...) لقد أمرت لك بمائة من الإبل وعتمتين من الغنم وعبيد وخيل وسلب ودراريع من لباس أروان (هنا بدأ التململ على بعض والارتياح على وجوه آخرين، وتمنى قوم لو كانوا مكان الشيخ، وقالوا: يا ليت لنا مثل ما له...) وبخيمة نشو وجميع أثاثها (لقد أصبح الرجل غنيا، ولكن ما ذا سوف يكون مصير صاحبه؟ هل سيقتله ويمثل به؟ أم سيكتفي بإخراجه من الحوض كما كان يفعل بعض أمراء أولاد امبارك بخصومهم؟) وبفروة، أيضا، وبألفي مثقال من ذهب باغنه... وأعطيك (ما ذا بقي حتى يعطيه إياه؟ يا لحسن هذا الحظ! وما أكرم هذا الأمير) أَجَلَ ثلاثة أيام تخرج فيها عني الحوض الذي لن يجمعني وإياك أبدا، وقد أهدرت دمك إن عدت إلى الحوض!
سيطر الرعب على وجوه الحاضرين وبدأ الذين تمنوا بلوغ مكانة الرجل يتراجعون إلى الصفوف الخلفية.. واستأنف الأمير حديثه:
"وأنت أيها الشيخ الثاني".. وكان ما يزال واقفا يتصبب عرقا ينتظر مصيره الغامض، ويعزف لحنا من التحزام الذي هو في الأصل "اتهربيل" (التوتر) فنزل حكم الأمير كالصاعقة: "لقد أمرت لك بضعف ما أمرت به لصاحبك، ولكنني أمرت أيضا ... (بدأت الهمسات والتوتر والخوف والقلق والارتباك على وجوه القوم، والرجل في حيرة من أمره، خائف على مصيره أهو القتل أم النفي من الحوض، والقتل أحب إليه وأرحم به من النفي من الوطن!)... بأن تظل معي لا تفارقني ما دمت حيا، وإذا ما مت فإني أوصي بني من بعدي ببرك وحمايتك وإكرامك، وبالحفاظ عليك وعلى ولدك، لأنك من أهل العهد، وللعهد عندي قيمة! ولك أن تمارس وتنشر ثقافتك وفنك دون أي تدخل أو مصادرة أو تشويش، ودون أية غضاضة".
ولقد كان "عهد" الأمير أحمد محمود لهذا الشيخ، وتسامحه والحرية التي أعطاه إياها سبب خلود ثقافة وفن وقيم الحوض التي أسسها وبلورها ورسخها "أولاد الفحفاح الظمان" ورعتها وحمتها وحافظت عليها وأغنتها إمارة مشظوف الغراء!