رحلة في عطلة الاستقلال / إسلمو أحمد سالم

(1) لم أقرر السفر إلى (عاصمة الشرق: كيفة) إلا في آخر الدوام ، و كان علي أن أعد اليابانية بطريقة تتلاءم مع الرحلة ، فيجب تجديد زيت المحرك ، و مصفاة الزيت و مصفاة المازوت ، و إحداث حركة تضمن سلامة الرحلة ، كما حدث في رحلة أكجوجت ، و يجب التعامل بحذر مع أمكنة الخلل التي أحدثتها حادثة بتلميت ، كما وقع مع حادثة اجتماع لجنة تسيير الحزب ..

قمت باللازم في الوقت المناسب ، و تحركت على أمل السفر بعد صلاة الظهر ، لكن الحيطة و الأجواء الملبدة بالقصص جعلتني أتأخر حتى صلاة العصر ، لتنطلق الرحلة .

 كنت غير مطمئن على قدرة اليابانية قادرة على تحمل مطبات الطريق ، و مقاومة الحفر و التشققات على الطريق ، و التي انغرست في جسم الطريق المتهالك ، خلال العشرية الماضية ، شأن انغراس أدوات النظام و (زيدانييه) في جسم المجتمع..

طريق أكجوجت طريق معبد جميل ، لكن مطبات الرحلة لا تقل على مطبات الطريق الرابط بين ألاك و بتلميت ، غير أنني واثق أن من استطاع أن يسهل الطريق بين سيدي ولد الشيخ عبد الله و أحمد داداه ، يستطيع تسهيل طريق ألاك-بتلميت ، و من استطاع أن يمر بسهولة و مرونة عبر طريق أكجوجت ، قادر على تطويع سلفه  و توقيف بهلوانية حركاته دون أن يتوقف عن ارتشاف كاسات الشاي 

                                           (2)مررت من كرفور (مدريد) و قد لاحظت أن أضواء المرور قد نصبت به ، فعرفت أنها لمسات العهد الجديد ، فبلمسة صغيرة يحدث الفرق ، و قد حدثت لمسات مماثلة أثرت في وجدان المواطنين ، كإعادة الموظف عبد الله ولد الحيمر لعمله ، و فتح خط جوي إلى النعمة  الذي حبذا لو عمم إلى كل عواصم الولايات ، و تخفيض سعر اللحوم ، و سفر الرئبس على حسابه الخاص إلى الخارج ، و الحرب التي فتحها وزير الصحة في قطاعه على تزوير الأدوية ..

الخط كرفور -تنويش يعج بالحركة ، و الناس يهرعون في كل الاتجاهات ، إنها حركية العاصمة التي تعطي صورة عن البعث و الحشر ، فلا أحد ينتبه للآخرين ، و ذلك التسابق و تلك الذاتية هي التي تؤدي لزحمة الطريق ، و التدافع عند الابواب ، و بيع المواد المنتهية الصلاحية ، و البول في الشوارع و رمي القمامة فيها ..

تنبئك الأسراب الكثيفة من الباعة الصغار عند محطات المسافرين و نقاط التفتيش عن حجم الحاجة لدى النسبة الكبيرة من المواطنين ، فكل هؤلاء يعيشون على بيع سرة نعناع او كأس شاي ، أو علب بسكويت ، و مع ذلك يحدثونك عن شراء مدير سابق لشركة لعقار بنصف مليار او قية ، و عن استحواذ الرئيس السابق (على طريقة الدببة) على تسعة عشر مليار ، و تغييب وزير سابق لمبلغ 1.6 مليار من الصندوق الاسود لوزارته ، و رغم التباين فإن هؤلاء الفقراء أكثر أريحية و طيبة من أولئك المتخمين على حسابهم ..

(3)بعد تجاوزي لمحطة توجنين الأخيرة فكرت في عقبات الرحلة ، و في صعوبة تحملي و تحمل اليابانية لوعورة الطريق من بتلميت حتى ألاك ، و أنه إما أسافر بالسيارة ، و اتحمل الألعاب البهلوانية للرحلة ، أو أسافر في باصات النقل ، و أتحمل أنفاس الأخرين و الارطام الآني بهم .

توقفت عند نقطة تفتيش الشرطة ، و ركنت السيارة أمام مكتبهم ، و سحبت حقيلة السفر أنتظر باصا النقل ، و قد قمت بالقرار بصورة مفاجئة ، لأن المعطيات تقول ذلك ، فالسلامة الطرقية و سلامة جسم السيارة ، و عدم إنهاكي بالسفر تتطلب ذلك ، و بذات المنطق ربما فكر السيد الرئيس حين أقال قائد الحرس الرئاسي و استثنى الحرس من العرض العسكري ، و غير خريطة الحفل عن برنامجها الزمكاني  لإرباك الخاصم ، لكن هيبة الدولة و رئيسها جعلتاه يصر على تمرير الحدث بطريقته المعهودة ، غير أن التلفزة الموريتانية أظهرت إرتباكا كبيرا ، و لم تقدم الحدث بطريقة مثلى ، و هي طريقة ألفناها من إعلامنا الرسمي ، فهو في أغلبه مرتجل ، و الغالبية العظمى من ممتهنيه غير مكونين ، يستعملون لغة تمجها الآذان و تنفر منها الذائقة اللغوية، و يرى أحد الإخزة أن التلفزة لا زالت للتطهير من داعمي الانقلاب الذي كان مدبرا حسب ما هو شائع ، و أن الارباك مقصود .

توقف باص صغير يحمل ضعف وزنه ، و تتزاحم داخله مجموعة كبيرة من الناس من مختلف الأعمار ، يجلسون على مقاعد تم قصها من الاطراف حتى تتسنى زيادة اعدادها ، يكون الجالس عليها محشورا من جميع الجوانب ، فحركة الأرجل مستحيلة ، و يجب ان يظل مسمر العينين إلى الأمام ختى لا يأخذ أنفاس مجاوره ، و ثابت القوام لأنه مضغوط في حيز ضيق ، و عليه أن يفكر في غير النسيم العليل ، و الارتخاء و التمتع بالرحلة ...

       (4) ما جعلني اقرر ركوب الباص الصغير هذا ، رغم خطورته ، هو سائقه ، فهو شاب من الفلان ، مرح و أريحي و يكسر الحسانية بطريقة انيقة تضفي عليها طابع البولارية الجميلة و الجازمة ، و أذكر هنا ان الفلان يكادوا يكونون القومية الوحيدة التي تدين كلها بالإسلام و المذهب السني ، و أن عاداتهم قبل الإسلام توحي أنهم سبق و أرسل لهم رسول ، فالفلاني الأصيل يلتزم بثمانية خصال لا يحيد عنها منها : الصدق و الأمانة و الوفاء و الالتزام و برور الكبير من حيث هو ، و غيرها ..

ركبت الباص و حشرت  في زاوية ضيقة ، يحاصرها مستند المقعد و المحرك ، و لأكسر الروتين بدات الحديث مع االركاب عن المستجدات و حديث الساعة ، و عزيز و غزواني و الشائعات التي تنتشر ، و قد كانوا طرائق قدد ، من حيث التكوين و الثقافة ، و لكن الطابع العام كان البساطة و الأريحية .

كان في مقدمة الباص رجل ستيني ، أصغيت لحديثه الهادئ الدافئ الذي ينبئ عن عمق حضاري ، و عرفت من خلال حديثه عن نوادر الديبلوماسية الموريتانية ، و قصص السفير محمد غالي ولد البو،  بعد القيمي ، و تراكماته الحضارية التليدة  الضاربة  غي التاريخ ، و من الغريب أنني عادة استطيع أن أميز ذلك المجتمع من خلال حلاوة الحديث و لين العريكة و قوة الحضور.

كان على طرف مقعدي رجل ستيني آخر ، يوحي بالوقار و بثقافة دينية مضمخة بتعبد و نسك ، يظهر ذلك من خلال لغته الجميلة المفعمة بالأمل ، و حب الفال الحسن ، و قد عرقت أنه أحد قراء كتاب الله بعد أن صلى بنا المغرب و العشاء جمعا ، و قرأ قراءة خاشعة جميلة اثرت فينا جميعنا .

و يجلس بيني و بين القارئ رجل خمسيني ، لكن شح الحال ربما أظهره أكبر من سنه ، و رغم طيبته ، إلا أنه في ما يبدو لم يكن متمدرسا ، و ربما كان أميل هو للتقليد منه للاستنباط ، و لا تخفي لغته  أن له خبرة  في البادية عاداتها و تقاليدها ..

                                        (5) كان على المقاعد الأخرى بانوراما من الركاب ، بعضهم كثير الشكوى من قلة الرياح و الحرارة ، و بعضهم منشغل في عالمه الخاص مع هاتفه ، و بعضهم يغط في نوم عميق .

كانت الرحلة إلى بوتلميت عادية و سلسة ، لأن الطريق قليلة الحفر ، و لعلها تحاكي انتقال السلطة السلس من المستعمر إلى اول حكومة و أول رئيس دولة بوتيليمتي .

لبتلميت رمزية عظيمة عند الموريتانيبن ، فهو الرافد الأول لأطر البلد ، و المركز الروحي الذي يأنس الناس به و يحتمون ، و رغم قلة الموارد في المدينة لنظافة أيدي أبنائها ، إلا أنها تبقى من أكثر مدن الوطن تقديرا و اعتبارا ، شأن أول سلطة في البلد عرفت بالاستقامة و نظافة الأكف رغم قلة الموارد و صعوبة التحديات ، ..

قبيل بتلميت تشهد الطريق بعض العوائق التي ربما تحكي أزمة نظام المرحوم المختار ولد داداه في أيامه الأخيرة ، إبان حرب الصحراء الغربية ..

من بوتلميت حتى ألاك تبدأ المعركة الحقيقية ، و كأنها تحكي المرحلة الزمنية التي عاشها البلد من انقلاب 78 حتى انتخاب الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله الألاكي رئيسا للجمهورية ،.

ألاك هو حاضرة ولاية لبراكنة ، و ملتقى أبنائها ، و هو ميدان معركة السياسة الجهوية ، و هو يعيش أضعف حلقاته السياسية بعد أن انتزعت من المدينة واجهة المجلس الجهوي ، و رأس لائحة النواب ، و غيبت عن المواقع التنفيذية خلال فترة ليست بالقصيرة خلال العشرية.

لكن ظهور الدكتور نذيرو ولد حامد ذكر أن الولاية لا يمكن أن تتأخر عن واجهة الأحداث الوطنية ، فهي قد تتواني عن الصراع السياسي المحض ، لكنها ستكون حاضرة و بقوة في معركة التنمية ، و يعطي الدكتور نذيرو نموذجا حيا لأطر مقاطعة ألاك ، فهم وطنيون اختفت عندهم المفاهيم الضيقة و يؤمنون بشمولية الوطن ، و لا يبحثون عن الذوات و انتفاع المجتمعات الخاصة أو التزلف للسلطة ..   

(6)  عند دخول لبراكنة أشعر أنني بين الأهل و الأحبة ، و الطريق من الاك حتى مقطع لحجار أحفظه عن ظهر قلب ، فقد خبرته تلميذا و طالبا و أستاذا ، و سافرت معه في كل الأوقات ، و أعرف القرى الموجودة عليه مثل كفي ، انطلاقا من شكار و مرورا بأكريميات ثم أنضلي ثم الجزيرة ثم البلد الامين ثم دار السلام فلخريزة فالصفا فالكرامة ثم لكراع ..

و بمجرد أن تدخل في المقاطعة تتذكر قول الشاعرفيه :

لدى مقطع الأحجار شيدت مرابع 

             بما شرع الهادي بها السعد طالع

ربوع لها أمن مبين و بهجة 

        وطيب هواء للنفوس يبايع ..

و لا يمكن لأي مقطعي أن يوفي الصغيرة بنت ديدي بنت آبه حقها ، حين غردت في مهرجان شنقيط بصوتها الجميل ، بذكر مقطع لحجار و روافده .

في مدخل المدينة تجد أن المدخل يعج بالحركة ، فهنا تنشط ظاهرة (الرسترة) و لكل شركة نقل زبونها الخاص ، و مقابل التوقف بالركاب سيربح السائق عشاء لذيذا و كاسات شاي على شرفه ، و لأنني أقلد (أولاد امبارك) في وجبات الليل ، و يبدو أن أغلب الركاب مثلي ، فقد كان صاحب البقالة أوفر حظا من صاحب المطعم ..

انطلقنا من المقاطعة ، و كان صاحب الباص هذه المرة مستيقظا نشطا ، و الطريقة سهلة لا مكدر فيها ، غير سوق المدينة التي اختفى فيها بلاط الطريق تماما ، و لولا رؤية الدكاكين لظننت أن أخاديدها هي أخاديد وديان آفطوط ، و رغم أن بلديتنا لها ميزانية 245 مليون أوقية قديمة ، حسب رواية الأستاذ يحيى عبد الرحمن في وثائقه ، غإن أي مظاهر على الارض لا يمكن أن ترى بالعين المجردة ، اللهم إن كانت مثل الانجازات التي تحدث بها وزيرنا عن النظام السابق 

(7)  مقطع لحجار هذه السنة تحول أغلب سكانه نحو العاصمة ، و قد سمعت أحد الإخوة يسمي كرفور بحي الطليعة ، لأن رأس المال الأساسي بالنسبة للسكان هو المصادر البشرية ، لذلك فقد انتقلوا لتدريس أبنائهم ، بعد أن أصبحت المقاطعة لا تقدم تعليما مقبولا إثر هجرة أصحاب الكفاءات للعاصمة ، و ضعف أداء التعليم الحر . 

تعاني كل  المناطق الداخلية من ضعف مستوى التعليم ، و السبب الاساسي هو هجرة المدرسين و اكتتاب العقدويين ، و غياب الرقابة و عدم توفر المعطيات التي تسمح بقيام تعليم حر ناجح .

انطلقنا مشرقين مرورا بقرى العدوة اليمنى للمدينة ، و انساب الباص بسرعة على الطريق ، فيما استغرق الركاب في نوم عميق تتخلله الارتطامات بين الرؤوس ، و ارسل مسجل السائق موسيقا هادئة بصوت جميل و عزف تقليدي يستغرق المستمع ، و هذه الألحان التي تؤثر في الوجدان تثبت أن فننا الإفريقي هو الرافد الرئيس لكل الفنون الوطنية .

صنكرافة هادئة في كل الأوقات ، فالمسحة الصوفية السائدة تعطي للأنفس هنا طمأنينة و أناة ، و تختزن المدينة و روافدها قامات علمية و أدبية أعطت للمقاطعة حضورها في المحافل العلمية الادبية على المستوى الوطني و الدولي ، كما أن ابناء البلدية تفرقوا سفراء للمقاطعة في اصقاع المعمورة ينتجون و ينشرون تعاليم الدين الحنيف.

في صنكرافة أشياء مهمة جدا بالنسبة لي : ثانوية صنكرافة التي عملت بها ، و عرفت كيف تتوفر على مستويات ذهنية مثيرة ، و كيف تعاني من الإهمال . طبيب صنكرافة الذي يبهر بدقة معلوماته و قراءته لنفسيات المعاودين . قرية اتوجكجيت القلب النابض للبلدية و التي تبعث الحركية و التفاعل للبلدية مع الآخرين .

تعاني المنطقة الممتدة من شرقي صنكرافة في اتجاه بوافكيرين من الآثار المدمرة للبئة و الحياة لاستخراج الذهب ، لكن الأعين في المقاطعة عمياء ، و الآذان صماء عن غير السيتسة و السياسة فقط .

 

(8)  الطريق من مقطع لحجار إلى كيفة سهلة ، و هي تكتنز جزءا  من تاريخ موريتانيا ، من اشرم حتى كندرة فكدى لعصابة و أحراشها و سهولها المنبسطة ختى النهر ، و آكامها و كثبانها التي تعانق تكانت و الجوضين.

تبدأ الطريق بسهل آفطوط المنبسط حيث يحلو سباق ذوات النقع ، و تترأى فريسة الصيد للقناص فيضغط على الزناد بكل راحة و اطنئنان ، و مع تموجات هضبات لعصابة تتذكر صدر بيت أبي القاسم الشابي : و من لا يريد صعود الجبال ، و الذي تذكرت عجزه في المنطقة الفاصلة بين ألاك و بتلميت ..

عند الصعود تشعر و كأنك تحلق مع نسر جارح فتترأى لك عظمة قاطنة كامور و كرو ، و تاريخ الركب التي اتخذ من ظهور العيس مدرسة ، تنشر الذكر و تغرس الرجولة في الأبناء ، و تصقل مواهبهم و تنمي فيهم روح الاستكشاف و المغامرة .

على الطريق مكان يحكي تفاصيل حياة آساد ملحمة ، و قد وددت كثيرا أن أنزل فيه لأقرأ التفاصيل من الناس ، كندرة مكان مكتنز بالعظمة و الفضائل ، و قد عرفت خلال حملة الرئاسيات أحد أبنائه الذين تمسكوا بالماضي مضمخا بثقافة و معطيات الحاضر ، إنه ابن البطل الوطني المتميز الشهيد أحمد ولد بوسيف ، الوزير السابق المختار ولد بوسيف ، و قد صدق القائل في إحدى ليالي الحملة ، ترحيبا به :

الاعيان إلى جات الاعيان ... وخيرت اتجي ماهو بالسيف

وخيرت و لا فيها لحران ... بالمختار المارك بوسيف ..

عند نزولي من السيارة في عمق كيفة لم أجازف بقطع الطريق المظلم وحدي ، فليست تلك في نظري شجاعة و إنما تهور ، فأصررت على السائق أن يرسل معي مرافقه و ينتظر على الطريق ، ففعل ، فما كنت لأقع في كمين فرسان اللبل ، رهبان النهار ...

1. ديسمبر 2019 - 0:59

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا