نظم مركز "مبدأ" ندوة قيمة تحت عنوان "الانفتاح السياسي في موريتانيا ودوره في تكريس الديمقراطية" حضرها جمهور كبير غصت به القاعة، وأنعشها لفيف من المحسوبين على النخبة السياسية بكامل أطيافها وتوجهاتها.
ولما كان مستوى المداخلات من الناحية الخطابية مقبولا في مجمله بالنظر إلى التجربة الكلامية الضاربة لدى أصحابها في قدم اعتلاء المنصات البلاغية، فإن المستوى التحليلي العام كان دون المنتظر من لدن جمهور جاء غفيرا ومتلهفا إلى الإمساك بالخيوط الصحيحة لمجريات الأحداث المتلاحقة على خلفية هدوء غير معهود بدأ يطبع بإيجابية ملحوظة منعطفا دقيقا من تاريخ الدولة عرف نهاية حكم أحادي دام عشرة أعوام تحت يافطة "الديمقراطية"؛ ديمقراطية "ملجمة" بتكميم المعارضة ومُسرجَة بحزب حاكم وأغلبية تابعة لهوى، الحاكم في رحاب فضاءات "الانفراد بالقرار" حتى كاد، لأجل الاستمرارية أن ينقلب، في نهاية عهدتين، على المادة 99 العصية من الدستور والتي تحدد عدد المأموريات الرئاسية باثنتين؛ انقلاب جندت له كل وسائل الدولة المادية والبشرية والإدارية وأنشئت له عشرات المبادرات بكل القراءات الممكنة، قبلية وجهوية وبرلمانية.
ولم يُستثن كذلك العسفُ اللفظي أثناء هذه المحاولة حتى وَصَل حد التصريح المتعمد بإمكانية التحول بالبلاد إلى "ملكية" توريثية من بعدما نكص علم الدولة ليسقى في طرفيه دما، ويلحن في مصر نشيدها على خلفية إلغاء نصه الأصلي، وتستبدل عملتها ويسوي بالأرض مبنى مجلس شيوخها.
انبرى كل من المتدخلين يلقي، على الحضور الكبير، ربما لا شعوريا الكلام "المتحيز لـ"انتمائه السياسي الضيق المنبثق من خلفيته الايديولوجية التنظيرية الخالصة - وإذ لا ذكر عمليا في الذاكرة السياسية الحزبية والحركية الموريتانية على العموم إلا لقليل الفعل الميداني - ويرضي ذاته منفردة ناسيا، ربما، أنه استدعي كـ"محلل" محايد لمعطى أو مستجد سياسي له أبعاد ويستلزم قراءات واستشراف مآلات، حتما، منظورة لظرفية "حكامة" جديدة، هل تُصحح أم تَجُب التي قبلها بالنظر إلى الإرباك الشديد الحاصل داخل صفوف حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الذي كان يظلها، لا سياما بعد عودة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز المثيرة وإعلانه على حين غرة الاعتزام ترأس الحزب الذي قال إنه من أنشأه متجاوزا بالذكر الذين وضعوه له "نسخة" محينة في النص والمنهج عن حزب "عادل"، عن "الحزب الجمهوري" ليحكم به "قبضة فولاذية" طيلة مأموريتين متتاليتين دعيتا "العشرية" امتداحا بذات منطق القوة حتى كادت أدبياتها تحولها على الألسن إلى "إلياذة هوميروسية".
توالت العروض على هذا النسق، غني كل على ليلاه وتراشق البعض على استحياء مخافة الاصطدام الذي يخشاه - على العادة - عِلية أهل المنكب البرزخي تهيبا لما قد ينكشف على الأرجح من "العورات" السياسية و حذر كشف هشاشة أو استحالة الثبات طويلا على المواقف الراسخة أمام مغريات الترحال والاصطفاف وقلب الدراعة.
وبالطبع لم تسلم مداخلات الجمهور، في مجملها هي الأخرى، حبا راسخا في الخوض في الصراعات ونكئ الخلافات، من بعض الشرود أو حتى من المجانبة المتعمدة لأسباب مختلفة لُب موضوع الندوة الذي تم اختياره بعناية وبانتقاء موفق لأصحاب العروض المقدمة، كوكبة مثلت إلى حد مقبول مجمل الطيف السياسي الناشط في فضاء التعاطي، من المعارضة ومن الموالاة ومن صنفوا أنفسهم بأنهم بين ذلك.
ومع ذلك فقد لامست بعض مداخلات الجمهور الرصينة جوانب هامة من الموضوع لم يتعرض لها المحاضرون كفاية لأسباب تختلف باختلاف مقتضيات الحفاظ على الحضور في المشهد بحساباتهم، كما ذكر متدخلون آخرون بنقاط جوهرية لم يطرقها أي من المحاضرين وهي من صميم أسباب الانفتاح الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية وقدم سبيلا إليه إشارات قوية أدركها الجميع وبادر البعض إلى التعاطي معه فيما يترقب الشعب نتائجه على السلم السياسي الذي عانى كثيرا خلال العشرية المنصرمة.
فمن لهذا الانفتاح الديمقراطي الذي ظهرت بوادره والمرمى السياسي يعاني تبعات ضعف عام يعتري السياسيين بشكل لا يمكن لعين أن تنكره من رمد ولا فم من سقم؛ ضعف ثلاثي الأبعاد، خور الخطاب واختلال السلوك المنهجي وغياب الشجاعة المبدئية؟