غالبا ما تشكل الزيارات التي يقوم بها الرئيس –أيا كان-فرصة مهمة للإطلاع على أوضاع الساكنة،والاضطلاع بمسؤولية الدولة في تلك المنطقة الحائزة الفضل بالزيارة. كما تشكل فرصة اقتصادية نادرة للتجار وأصحاب الفنادق والسيارات ترد عليهم من جميل الحياة بعضه،وتغسل من وجوههم كدر العيش وأدران القحط.
لكن الزيارة الأخيرة التي قادتها وزيرة الثقافة السيسه بنت بيده إلى وادان وحشدت لها من عظيم أموال الدولة ومسؤوليها – وعلى رأسهم السيد رئيس الدولة- الشيء الكثير،لم تشأ إلا أن تكون بدعا من سابقاتها،وتشهد أحداثا "طارئة" وخارجة عن إرادة المنظمين،ليضطر الوفد الرئاسي لقطع الزيارة والرجوع –على عجل- إلى العاصمة. فالزيارة التي نظمها السيد الرئيس إلى وادان، واستقبلته الجماهير بكل حفاوة، وضن –سيادته- عليهم بابتسامة –ولو مجاملة- ،ولم يتورع –حفظه الله ورعاه- أن يصعر خده للجماهير، ويمشي في أرضهم مرحا، ويدير لهم ظهر المجن، ويظهر لهم غير الوجه الذي لا قوه به، فبدالهم من رئيسهم ما أخفته العيون،وأضمره القلب،لم تكد تلك الزيارة تبدأ حتى فاجأتها ريح عاتية،هزت أركان النظام ،وعجلت من رحيله. غضبة الريح.. قد لا يكون سعيد الحظ في هذه الايام ذاك الذي تُولي الحكومة وجهها إليه ،وتلفت إليه "مكارم" وزيرة الثقافة،فالجفاف يضرب أطنابه في أعماق موريتانيا، والحكومة حين تقرر الزيارة ،فإنها لا تحمل لساكنتها غير المصائب والمتاعب،فلا هي تساعد فقرائها،ولا تسعى لتوفير العلاج لمرضاها،ولا تتبنى مشاكلهم،أو تسعى لحلها،ولا هي تفكر في بناء مساكن لهم تؤويهم من حر الصيف،و برد الشتاء،وإنما تأتي -حين تأتي- بمهرجانات لا تسمن ولا تغني من فقر مدقع، وبؤس ضارب ،وكيف تراه يغير من حال مواطن ضعيف، أو تخفف أنة مكلوم وزفرة محزون؟ والحديث عن التراث أمر مهم،والحفاظ عليه هدف مشروع، لكن الأجدر بحكومتنا أن تسعى نحافظ على حياة الأحياء من المواطنين- أو ما تبقى منهم-لأنهم هم أيضا مهددون بالموت والجفاف والانقراض(وحفظ الموجود أولى من طلب المفقود)،وسياسة حرق المراحل وتجاوز الواقع لا تجدي نفعا ولا تنجز معدما. والريح الهائجة –وليست الرياح اللواقح التي تحمل الخير والرحمة- التي ضربت معاقل "الوفد"،وأفسدت عليهم مهرجانهم،جاءت بلسان حال شعب مضطهد، و لتقول لسيادة الرئيس: يا سيدي الهمام.. إنا هنا مواطنون.. وهذه بلادنا..من ألف قرن قبلكم وألف عام.. فلترحلوا يا سيدي..ولترحلوا.. من فوقنا ومن تحتنا.. فنحن وحدنا في أرضنا مخلدون.. على أن الريح القوية التي هزت أركان النظام واقتلعت خيامه: كأني وقد جد الفراق سفينة ... أشالت على الريح الهجوم شراعا عبرت عن موقف سياسي محدد،وطالبت سيادة الرئيس بالرحيل،لتعلن بذلك موقفا موافقا لما يطالب به قادة المعارضة. ولأن الشيء بالشيء يذكر،وزيارة الرئيس تأتي بعد زيارة المعارضة،التي جابت الأرض طولا وعرضا ،تفسر موقفها المناهض للنظام،وتشرح للمواطن كيف أن النظام فاسد من رأسه حتى أخمص قدميه،وأنه يجر البلاد إلى قاع الهاوية. لكن أرض "الملثمين" التي كانت مهادا لمنسقية المعارضة، وبساطا لهم، وظلت هادئة متواضعة لوفود المنسقية وهي تنتقل على أديمها الطاهرة من منطقة إلى أخرى(أرض إذا نأيت يوما تساءلت ..في قلبها الذرات عن ذراتي)، أبت-تلك الأرض- إلا أن تكشر عن أنيابها للقادم الجديد،وتخرج أثقالها،تطارده لعنة الطبيعة أينما ارتحل، وترفض مدينة وادان الوادعة إلا أن تنضم لجموع الغاضبين من الطلاب والساسة والمنظمات الحقوقية. رسائل أربعة.. عاش المشاركون في مهرجان وادان لحظة هبوب الرياح العاتية واقعا لا يحسدون عليه،فقد اضطر سيادة الرئيس للمغادرة بعد أن عصفت الريح بالخيام المضروبة للوفد،كما شوهدت الوزيرة وهي تبحث عن مأوى تأوي إليه من ضربات الريح القوية، والحال نفسه مع بيجل، ولم يسلم الصحفيون من الأتربة التي تتقاذفها أمواج الريح ،لتفسد عليهم "عرض" العضلات الذي فشلوا في تقديمه. والمتابع لتلك اللحظات يستنتج رسائل اربعة : الرسالة الأولى: هي رسالة موجهة إلى رئيس الجمهورية،مفادها أن الله تعالى قادر على أن ينتزع منك الملك بين عشية وضحاها..( ما بين غمضة عين وانتباهتها..يغير الله من حال إلى حال)،كما داهمتك الريح العاتية،وغيرت برنامجك. والتغير حين يأتي بثورة كان أو انتخابات أو انقلاب عسكري فإنه سيكون قويا قوة الريح،وسريعا ومفاجئا كما كانت العاصفة،وهو سيدفعك إلى أضيق الطرق وأقل المخارج أمنا،كما اضطررت أنت إلى أن تسلك طريق السيارات بعد أن غيم عليك الجو وخفت على نفسك . إن الناس سيدي تريد حقائق لا أحلام كاذبة،وتريد وفاء بعهد قطعته على نفسك أيام كنت طامعا في أصواتها،الناس تريد تحقيق التنمية والقضاء على الفساد وتطوير التعليم والصحة والقضاء على الجفاف والبطالة وتحقيق الوحدة الوطنية. وما لم تتوفر هذه الأمور،فكل شيء قابل للانفجار،وحين تنزل إلى شوارع العاصمة وتزاحم الناس في يومياتهم ستجد أن الاحتقان قد بلغ مداه،وأن الناس قد تعلمت دروسا جديدة،وحكما فريدة خرجت من رحم الثورات الهائجة،وهي أن زمن الاضطهاد وتكريس الحكم الأوحد قد انتهى،والخيارات قليلة أمامك فأصلح –هداك الله- تجد شعبك معك،أو افسد تجده يثور عليك ، ويكسر عصا الطاعة ويقتلع جذور الفساد بنفسه(فاختر لنفسك أي الأمرين تختار) الرسالة الثانية:موجهة إلى أعضاء الحكومة ،أنهم أول المتضررين من أي ثورة جديدة،وأول من يدفع ثمن بقائه مع الفاسدين،بسبب ارتمائهم في أحضان نظام قمعي لا يقيم وزنا لمواطنيه،ولا يهمه حالهم،ولا يعقل سنن الحياة،وقد رأى نظاما قويا يتهاوى في لحظة غضب شعبي عارم،بعد أن جثم على صدورهم أكثر من عقدين من الزمن. الرسالة الثالثة :تعني بعض قوى المعارضة التي أدارت ظهرها لمصالح البلد،واختارت أن تلتحق بقطار من باعوا البلد وثروته بأبخس الأثمان وكان في وطنهم من أشد الزاهدين. وقد نسي هؤلاء مع أولئك أن النتائج الهزيلة التي توصلوا لها في ما سمي حوارا آنذاك،لم يكن إلا ضمانات لاستمرار النظام الحالي،وهم يدركون في قرارات أنفسهم أنه لا يسعى إلى حل المشاكل،بل يكرس للظلم والقمع،وهو يقود بسياساته البلاد إلى هاوية السحيق،وتلك حقيقة يدركها حتى أفراد حزبه ،لكنهم أنكروها وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعدوا.. ثم لو كان النظام فعلا قدا اطمئن إلى أنه حاور المعارضة وكسب ودها فلماذا يدعوا الرئيس إلى حوار جديد؟ أوليس ذلك دليل على أن ما جرى في الماضي لم تكن إلا مسرحية سيئة الإخراج،انفقت فيها أموال طائلة على السياسيين لكي يتواجدوا في قصر المؤامرات –على حد تعبير إحدى الصحفيات- ينامون مرة ويستيقظون أخرى. الرسالة الرابعة:إلى وسائل إعلام النظام،وقد حاولت أن تظهر في ذلك اليوم بأداء جيد،لكن التجربة كانت هي الغائب الأبرز،ولقد شوهد أحدهم يقول لصاحبه وهو يحاوره: إن الجمل حيوان أليف!! يلعب الإعلام دورا مهما في توعية الناس وتبيين الحق لهم كما يلعب دور أساسيا في تضليلهم وإخفاء الحقيقة عنهم. والناس إذ تنتظر من الإعلام الرسمي أن يكون منارا للحقيقة،يفضح السارق ويكشف الفاسد،فإنه لن يقبل من الإعلام التضليل والتعتيم على ما يحدث في أروقة الدولة الغامضة. ريح الأحزاب.. الذي يتابع ما حدث في ذلك اليوم،وقد فر صفوان القوم وعكرمتهم، وتطايرت أوراق القوم، ونسفت الريح أحلام المهرجان ،يتذكر –دون نية مبية- حادثة الخندق يوم تألب الكفار على الإسلام وتحزبوا، فخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها تجر ذيول الكبرياء إلى المدينة. وكأني بالعزيز ينادي في قومه –كما فعل ابو سفيان-: "يا معشر القوم إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكُراع والخُف،ولقينا من هذه الريح الذي ترون، فارتحلوا فإن مرتحل" غير أن صفا "الأحزاب"(والصفا هو اسم الريح التي عصفت على الكفار يومئذ على قول مجاهد) تختلف عن صفا وادان اختلافا بينا، فالريح التي هبت على الأحزاب يومئذ جاءت لتكف بأس الكفار،وترد كيدهم في نحورهم، أما ريح وادان فلئن أفسدت المهرجان وحرمت المتابعين من مشاهدة "سباق الحمير"،فقد كانت رحمة لساكنة المدينة، وفرجا عظيما للمواطنين،إذ كان عليهم في حالة أقام الوفد بالمدينة أن يدفعوا من جيوبهم المقفرة،ويُضيفوهم بما تبقى من الأنعام بعد زحف الجفاف العارم دون انتظار جزاء من أحد ولا شكورا. إن ما حدث في وادان كانت رسالة واضحة إلى النظام بضرورة الإصلاح،وإشارة أكيدة على ضرورة الإسراع في إنقاذ سفينة الدولة التي أوشكت على الغرق. تلك رسائل تنفع العاقل إذا عقل ،واللبيب إذا فهم، فهل من مدكر؟