أدرك أن ما أكتبه قد يصنف في خانة الحملة أو الدعاية ضد الوزير "المنقذ"، أو الرجل "المخَلص".. شخصيا لا يهمني الأمر، فلست مستثمرا في القطاع، ولا تربطي بالقطاع ولا بأهله ولا بالوزير صلات عمل أو قرابة، إنما أنا مواطن صاحب رأي له الحق في التعبير عنه، ولعل العداوة الشخصية والتحامل ضد فلان أو علان، تبقى هي المشجب الأسهل لنعلق عليه فشلنا وأخطاءنا، ومن ثم نستريح من عبء التصحيح، وجسامة وتكلفة الاستدراك.. ولكن الناس من النضج والوعي بحيث تميز بين التحامل الشخصي، وبين النقد الموضوعي والرأي المؤسس، وعلى كل مسؤول أن يفرح حين يجد من يقدم له نقدا متوازنا وموضوعيا ( رحم الله من أهدى إلي عيوبي) ( ولا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها) ، وللأسف فإن آليات إداراتنا تكرس في الغالب النفاق والتملق للمسؤولين، بدل النصح والنقد والتوجيه..
ولعل المشجع على النقد هو ما يلاحظ من تطور في استجابة السلطة لما يقدم من ملاحظات واستدراكات ونقد بناء، وليس ذلك ضعفا ولا ترددا، بل هو قوة ومرونة، فالقوة الحقيقية هي في القدرة على الاعتراف بالأخطاء والتراجع عنها، ولعلنا هنا نسجل التعاطي الإيجابي والسريع مع حادثة إهانة المواطنين، وهو ما نرجو أن يعم ليشمل مختلف الأجهزة الأمنية والقطاعات الحكومية، فلا بد أن يستشعر المسؤول تبِعة أفعاله ويجد مرارة العقاب على أخطائه، وأن لا يكون هؤلاء مجرد كبش فداء لأخطاء أكبر ومسؤولين أرفع..
ومستندنا في هذه الملاحظات هو ما تنشره وزارة الصحة من بيانات وتصريحات، وكذلك شهادات المرضى والمحجوزين وبعضها موثق مسجل، وبعضها قدمه أصحابه بصفاتهم وأسمائهم وأسماء مرضاهم.
أولا خلل في الجاهزية للرعاية
فحين تكون أغلب الوفيات ـ حتى لا أقول جميعها ـ إما تم اكتشاف إصابتها بعد وفاتها، وقد تنقل أصحابها أياما في عدة مستشفيات عمومية أو مصحات خصوصية، أو توفيت بسبب خطأ في التشخيص أو إهمال في الرعاية بعد تشخيص الحالة.. فهذا يعني خللا بينا في الاستعداد لهذا الوباء، ويشي بتقصير كبير يصعب تبريره أو تجاوزه.. هذا يعني أننا لم نستعد فعلا لعلاج مرضانا وأن استعداداتنا لم تصل ـ للأسف ـ أدنى مستوياتها، فقد أعلنت وزارة الصحة بداية الجائحة أنها ستعمل على تهيئة المستشفيات، وأعلن أن أقساما وأجنحة تم بناؤها، وأن أسرة وأجهزة للتنفس الصناعي تم اقتناؤها أو يجري التحضير السريع لذلك، وقد أنفقت بالفعل مخصصات كبيرة، فأين ذهب كل ذلك ؟!
ثانيا نقص ومحدودية التشخيص
لقد كان من المفترض أن تكون جاهزية مختبراتنا أكبر مما هي عليه الآن، وطاقتها الاستيعابية أكبر، فأن تكون قدرتنا التشخيصية تتراوح بين 50 و 160 فحصا مخبريا لليوم، حسب ما تعلنه وزارة الصحة يوميا، ثم تستعين الوزارة بأرقام الاختبارات السريعة لمغالطة الرأي العام الضاغط من أجل زيادة وسرعة التشخيص في فترة تفشى فيها الوباء مجتمعيا، والحاجة للتشخيص لحصر المرض ومعرفة مسارات تحركه هي أهم جهد يمكن للوزارة القيام به، وهو المهمة الرئيسية التي كان ينبغي الاستعداد لها بعد تهيئة مستلزمات الإنعاش والعلاج، بل وحتى قبلها، فكيف أمكن التقصير لهذه الدرجة، توفيرا للمستلزمات أو تكوينا للطواقم الطبية الكافية المؤهلة؟! فحجم الطلب الهائل على الفحوص وقلة المتوفر منها، وتكرر الأخطاء فيها كلها أمور كادت تفقد المواطن الأمل في مقدرة الوزارة والثقة في مصداقية ما تجري من فحوصات.
ثالثا ظروف الحجر السيئة :
حين تتكفل منظمة أو مؤسسة غير حكومية برعاية واستضافة مئات الأشخاص، يمكن أن نغتفر بعض الأخطاء هنا أو هناك، ولكن حين تتهيأ السلطة في أعلى هرمها من خلال لجنة وزارية عليا، وتأخذ الوقت الكافي للاستعداد، فإن حجم هذه الأخطاء ومساحتها يجب أن يتقلص لأدنى حد، ودرجة التخطيط وجودة التنظيم يجب أن ترتفع لأعلى مستوى.. لقد تعالت الأصوات، وارتفعت الشكاوى من كل أماكن الحجز، تنذر بسوء الاستعداد والتهيئة للأماكن ومستلزماتها ونظافتها وإعاشتها، وما يتطلبه أصحابها المرضى من رعاية ومواكبة صحية ونفسية دائمة، ففيهم المرضى أمراضا مزمنة أخطر وأشد حساسية من "كورونا" ووضعهم في ظروف سيئة قد يسبب لهم مضاعفات أكبر..
رابعا الفشل الدائم في تحديد المريض رقم صفر:
ولعل الغريب أنه في كل الحالات المجتمعية فشلت الجهات المختصة في تحديد مصدر العدوى، في حين تركز السلطات جهودها على حصر المخالطين للمصاب، وهم مجرد فرع من شجرة أصلها يتفرع حرا طليقا ذات اليمين وذات الشمال ينشر المرض والعدوى، دون أن تُبذل الجهود والتحقيقات اللازمة لمعرفته، ولعله كان من الأنسب ـ إن لم يكن الحال كذلك ـ أن يحال موضوع التقصي عن مصادر العدوى لوحدات مختصة من الدرك أو الشرطة، فهي أكثر تجربة وحرفية.
خامسا غياب المحاسبة ونقص الشفافية
وحتى الآن فإنه لم يعلن عن تحقيق ولم يجر استقصاء جدي تتم على إثره معاقبة المتسببين في الأخطاء أو على الأقل معرفتهم، والضرر هنا يتعلق بالأرواح والأنفس والعقوبة فيه آكد، والفصل فيه أو التوقيف أولى من حالة خطأ رجال أمن الطرق، والغريب أن الحالة الوحيدة التي أعلن فيها عن تحقيق تتعلق بجنسية فرنسية ولعله بضغط من السفارة أو ترضيةً لها، أفلا يستحق مواطنونا الذين قضوا بأخطاء واضحة، أو على الأقل بتهمة الخطأ والتقصير، أن يتم التحقيق في ملابسات ما جرى لهم؟! ويتم الاعتذار لذوي المرضى والتعويض لهم إن كان لحقهم ضرر..
كما أن الشفافية أصبحت تنقص تدريجيا في ما يتداول من معلومات رسمية، فقد أصبحت الوفيات لا تذكر، أو تذكر سريعا دون تحديد لمكانها أو ملابسات وفاتها كما كان متبعا في الحالات الأولى، فلا يكفي أن تكون الوزارة مجرد جهاز لإحصاء الأموات والمصابين، فالأهم من ذلك هو تقديم معطيات دقيقة عن ظروف المرضى وملابسات الوفيات وعن الإجراءات المتخذة والاستعدادات الحالية والمنتظرة..
ثم لماذا لا يشارك بقية المسؤولين عن ملفات اللجنة الوزارية في مؤتمرات وزارة الصحة أو يعقدوا مؤتمرات صحفية دورية مستقلة، لتنوير الرأي العام؟ ولماذا يغيب رئيس اللجنة الوزارية (رئيس الحكومة ) عن المشهد الإعلامي وعن المتابعة الميدانية؟ في مقابل حضور زائد لملفات من المفترض أن تكون فنية صرفة.
أين الخلل إذا؟
من الواضح والجلي أن اللجنة المركزية ل "كورونا" عاجزة عن إدارة فعالة للحرب ضد الفيروس، وفي اعتقادي أن مشكلة اللجنة ليست في الإرادة الصادقة ولا في الإمكانات المتاحة، ولكن مشكلتها في الأساس هي الإدارة الفعالة، فما يحصل لا يمكن تفسيره ـ إذا أحسنا النية بالمسؤولين واستبعدنا قصد التقصير أو الإضرارـ إلا بخلل بين في التخطيط والتوجيه والمتابعة.. فنحن لم نكن من البلدان التي أخذها الفيروس على حين غرة دون أن يتاح لنا الوقت الكافي للاستعداد والتهيؤ، بل أمهلنا ـ بفضل الله ـ فترة كافية للاستعداد، فترة استعاد فيها العالم توازنه وتم فيها تجاوز الشح في توفير المستلزمات الطبية وأصبحت دول ومنظمات عديدة جاهزة للتبرع بها أحرى بيعها، ومع ذلك فإن حجم الإصابات في البلد لم يتطلب حتى الآن معدات طبية صعبة، أو غير موجودة، فأغلب الحالات لا تصاحبها أعراض ولا تحتاج علاجا، والذين احتاجوا للإنعاش هم أفراد قلائل، أغلبهم توفي قبل أن تشخص حالته، أو قضى نحبه في دوامة الفوضى والبيروقراطية الإدارية دون أن يتلقى العلاجات اللازمة.
إذا فمشكلتنا ليست في الموارد ولكن في تسيير هذه الموارد، مشكلتنا ليس في الكوادر ولكن في إدارة هذه الكوادر، مشكلتنا ليست في الوقت ولكن في استغلالنا لهذا الوقت.. هي إذا مشكلة مركبة ولعل طبيعة التنظيم داخل اللجنة المركزية ولجانها الفرعية وحجم الصلاحيات هنا وهناك، وغياب الانسجام والتنسيق والتعاون في مختلف المستويات فاقم من المشكلة، وزاد من حجم الأضرار..
هناك تفويض زائد في جانب أدى إلى خلل في المتابعة، وهناك مركزية زائدة في جانب، تسببت في عرقلة وتعقيد الإجراءات، والحسنة بين سيئتين. ومن المعرف إداريا أن التفويض لا يعني التخلي عن المسؤولية، فالمسؤولية لا تفوض، وكذلك المتابعة لا تعني تركيز جميع الصلاحيات والقرارات في جهة واحدة أو شخص واحد كما هو ملاحظ هنا وهناك..
قد يقول قائل: لا يخلو عمل بشري من أخطاء فلا تهولوا ولا تبالغوا.. وهذا صحيح بالفعل، ولكنها أخطاء الممارسة والتنفيذ قد تغتفر وتتجاوز إلى حين، ولكن التقصير في الاستعدادات الواجبة والخطط الواضحة والإدارة الفعالة لا يغتفر، فالأخطاء فيه هي "أخطاء قاتلة" وقد رأينا نتيجتها والحال هذه، فكيف إذا ازدادت الأوضاع سوءا، وتضاعفت الإصابات ـ لا قدر الله ـ فلا بد من وقفة حازمة سريعة لتصحيح الأخطاء.