عانت الإدارة الموريتانية خلال العشريات الماضية من العديد من المعوقات حَدَتْ بالكثير من شركائنا التنمويين و الفنيين إلي النًجْوَي لبعض كبار المسؤولين السياسيين الموريتانيين بأن الإدارة الموريتانية هي أحد أخطر “فَرَامِلَ التًنْمِيًةِ”.
ومن تلك المعوقات ضعف الوسائل المادية الممنوحة من الدولة و تدهور القيمة المعنوية و الرمزية للموظف العمومي السامي نتيجة لتغول النظرية المجتمعية القائلة بأن “القيمة بالمال”و كذا التسرب”الطوعي”و”الإكراهي”للمصادر البشرية الكفوءة بفعل “مناخ السيبة المهنية و استفحال ظاهرة اللاًثَوَابِ و اللاًعِقَابِ ” ..
ضف إلي ذلك “صدام المَشْمُولاَتِ والصلاحيات” و “أُخْطَبُوطِيًةَ الإجراءات” و وجود العديد من “العجلات الخوامس” la cinquième roue de la carrosse/The fifth wheel و “تضخم وزن الطواقم التأطيرية و القيادية” فيما يشبه “ظاهرة الجيش المكسيكي” ” Armée Mexicaine”التي تعني التفوق العددي الكبير للرؤساء علي المرؤوسين”!! …
و العجلات الخوامسُ اصطلاح فرنسي يقصد به مجازيا الأفراد الذين لا يؤدون مهام أساسية بالهيأت و أقصد به هنا تلك الهيآت أو المناصب السامية الوطنية التي لا تؤدي في المشهد المؤسسي و الإداري الوطني أية خدمة عمومية ذات بال و إنما هي أقرب “للديكور المؤسسي”أو “بَدَلِ البطالة” الذي يهدف إلي تحويل أشخاص من حالة البطالة التامة إلي خانة البطالة الفنية و المقنعة و من أبرز تلك العجلات الخوامس:-
أولا-الهيآت الاستشارية: يلاحظ المراقب لأداء معظم الهيآت الاستشارية ببلادنا أنها أشبه “بقبور الكفار في دار الإسلام” حيث لا حركة و لا زُوًارَ ثم إن قلة قليلين هم من يعرفون مكاتب تلك الهيآت و قد يضل عنها سائقو التاكسي الذين هم أهدي من القطا إلي مجاهل المدينة و تشتهر أغالب مباني تلك الهيآت برفرفة أعلام وطنية مُمَزًقَةٍ و مُتَآَكِلَةٍ.!!
ثانيا-مناصب ” المسؤول المُسَاعِد”: ليس سرا أن جميع الموريتانيين يعرفون أن منصب المسؤول المساعد عموما سواء كان مفوضا مساعدا، أمينا عاما مساعدا، مديرا مساعدا أو واليا مساعدا..لا يتمتع بأية صلاحيات و من المسؤولين المساعدين من قد يشاهد في ممرات المكاتب و هو “يَسْتَجْدِي” و “يَتَسَوًلُ” المستجدات غير السرية بالمرفق الإداري الذي يعمل فيه لدي كاتبة أو بواب أو جليس رئيس العمل!!
وللناس مقولات شهيرة في التحذير من تَبَوُإِ منصب المساعد منها أن ” كَبِيرَ الصِغَارِ خَيْرٌ مِنْ صَغِيرِ الكِبَارِ” vaut mieux être le chef des petits que d’être le petit ” des chefs.
ثالثا-مهام الاستشارية و التكليف بمهام: و هي في الأصل مناصب فنية بالغة الأهمية لا يجوز أن يُعهد بها إلا إلي من هو معلوم الكفاءة و الأمانة ذلك أن المبدأ هو أن “المُسْتَشِيرَ لا يَسْتَشِيرُ إلا من هو أوسع منه علما و أرسخ تجربة و أرجح عقلا” و إلا فلا وجه و محل للاستشارة أصلا!!.
لكن مناصب المستشار و المكلف بمهام في بلادنا فقدت تلك الحمولة المعنوية نتيجة لما عانت من التمييع المهني و التبخيس المعنوي و الإغراق العددي حتي أصبحت سِجْنًا للمُهمشين و مَنْفَي”لغير المصنفين” و “مَقْبَرَةً للفِيًلَةِ Cimetière des éléphants ” و في أحسن الأحوال “محطة تأهيل و انتظار” للمَهاجرين غير الشرعيين المَوْعُودِينَ بالترقية.!!
رابعا-مأموريات مجالس الإدارة: لا يحتفظ الموريتانيون بكثير ذكريات عن امتناع مجالس الإدارة عن التصويت لمقترحات الإدارة العامة لأية مؤسسة لذلك فإن دورات مجالس الإدارة لا تستغرق غالبا أكثر من وقت احْتِسَاءِ الشاي و استلام “مكافآت الحضور” Les Jetons de Présence.
كما لا تحتوي أغلب محاضر دورات مجالس الإدارة رغم ما يعرف علي نطاق واسع من عيوب و أخطاء و خطايا تسيير المؤسسات إلا علي كلمات المصادقة و التهنئة و الترحيب،…!! .
خامسا-المفتشيات الداخلية للقطاعات الوزارية: أحرزت المفتشية العامة للدولة نجاحات ملموسة في مجال اكتشاف و ردع اختلاس المال العام و حذت حذوها مؤخرا المفتشية العامة للمالية.
لكن المفتشيات الداخلية بالقطاعات الوزارية ظلت غائبة نائمة لا يسمع لها ركزٌ مما جعل الكثيرين يتساءلون محقين عن جدوائية و مردودية هذا الجهاز الرقابي الداخلي الذي لم يكتشف قط مخالفة مالية أو إدارية واحدة رغم أن خطايا التسيير المالي و أخطاء السير الإداري من حوله هي مِلْءُ السًمْعِ و البَصَرِ و الفُؤَادِ.!!
تلكم بعض الإضاءات السريعة الكاشفة لضعف أداء الجهاز الإداري بالبلد و حاجته إلى اتخاذ قرار بإجراء تدقيق مؤسسي و تنظيمي عاجل و شامل و شفاف يهز شجرة الإدارة العمومية هَزًا حتي تَسًاقَطَ الأوراق و العيدان اليابسة و الزائدة.
و في تقديري أن المدرسة الوطنية للإدارة خيرُ من تُوكل إليه هذه المهمة التي تهدف في المحصلة إلي إصلاح و تجديد الإدارة الموريتانية و جعلها أكثر قربا و أقل تكلفة و أكثر نجاعة و أبسط إجراءات و أوضح صلاحيات و أخف تسامحا مع “العجلات الخوامس".