لقد كتبت بتفاؤل عن الانتقال الديمقراطي الذي حصل إبان انتخاب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للسلطة واعتبرته بادرة خير، وهو بالفعل كذلك إذا نظرنا إلى ما كان سينجر إليه البلد من قلاقل واضطرابات، لو تمكن الرئيس السابق من انتهاك الدستور والتمديد لمأمورية ثالثة، ولعل ما حصل بعد ذلك في بعض الدول الإفريقية من تغيير للدساتير وخرق للمأموريات يؤكد خطورة ذلك المسار ( غينيا كوناكري مع ألفا كوندي وساحل العاج مع وحسن ترا)
فالأوضاع في معظم دول القارة الإفريقية لما تستقر بعد على حال من الديمقراطية متين، فهي دول تتردد بين رياح الديمقراطية وانتكاسات الديكتاتورية، والحمد لله الذي جعل حظنا قوسا جديدا من الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة.
ورغم الجو الاستثنائي الذي تهيأ للرئيس غزواني، حيث جاء بعد انتخابات توافقية، شارك فيها الجميع، ولم تلبث المعارضة أن مدت له يد العون متيحة فرصة ذهبية نادرة، قليل من الرؤساء من يحصل عليها، داعية للحوار ومهدئة لأجواء التوتر والاحتقان السياسي.. إلا أن الأداء السياسي والإداري للنظام لم يرق إلى مستوى الآمال التي كانت معلقة عليه، وهو ما قد يشكل خطرا على مستقبل التهدئة السياسية، وسببا في عودة التوتر السياسي والسخط الشعبي.
فالشعوب في دول العالم الثالث، يمكن أن تقتنع بإحدى طريقتين، أو تخضع على الأصح: فهي تخضع للقوي الظالم المفسد الذي يوظف وسائل الدولة في الترغيب والترهيب، ويستخدم سياسة التفرقة والعنصرية وإذكاء النعرات العرقية والفئوية والجهوية.. أو للمصلح الجريء الحازم، الذي يتقحم الصعاب ويحقق المعجزات.
أما الأداءات المقبولة والإنجازات المتوسطة، والتردد والتسويف، وانتظار التخطيط بعد التخطيط، والتعلل بالظروف والإمكانات.. فيمكن أن يتفهمها قليل من النخب المنصفة، أما غالبية الشعب فستشكل مصدر خيبة وسخط ، حتى ولو كانت مبررة ظروفا وتخطيطا وإمكانات..
يمكن في مجتمعات الطفرة والرخاء أن يقنع الناس من الحاكمين بالحفاظ على الموجود، وضمان استمراره، إلا أن المحافظة في بيئات سيئة، هي قتل بطيء للناس، وللأمل عندهم، والثبات في واقع متردي، هو تراجع في حقيقة الأمر، واستمرار للألم و المعاناة.
ولذلك، فإن المتابع لتاريخ مختلف الأنظمة السياسية في البلد وفي غيره من البلدان؛ سيجد مع بداية كل نظام جديد، أن هنالك نيات للإصلاح وجهودا معتبرة لتصحيح الاختلالات السابقة ( والغريب أن أغلب تلك الجهود يكون مخلصا وصادقا ونابعا من إرادة حقيقية للإصلاح).
إلا أنه مع مرور الوقت، تخبو تلك الروح الإصلاحية تدريجيا، وتذبل، إلى أن تختفي، وقد تتحول مع الوقت إلى أداة طيعة من أدوات النظام الفاسد أو المختل الذي جاءت لتغييره أو تصحيحه..
يستوي في هذا المصير ـ غالبا ـ الثوري الذي جاء محمولا على الأعناق، أو الانقلابي الذي يركب ظهر دبابة، أو الديمقراطي الذي قذفت به صناديق الاقتراع في فلتة من قبضة الديكتاتورية..
يرجع كثير من المحللين هذه الظاهرة إلى وجود "يد خفية" أو جماعات سرية، عابرة للأنظمة و الأشخاص، تتحكم في الدولة بجميع مفاصلها، وهو تصور لا يخلو من تضخيم ومبالغة، فهذه اللوبيات السرية ـ وإن وجد بعضها في فترات معينة ـ لا يمكن أن يكون بينها من الترابط والتناغم في المصالح والأهداف، ما يجعلها عابرة لجميع الأنظمة، وتخفى على الجميع، وهي تتحكم في الجميع!!
و المبالغة في نشر هذا النوع من الأفكار هو مساهمة من بعض الطيبين في تيئيس الناس من التغيير وفعالية جهود المصلحين.
والواقع أن الأمر في رأيي أهون من ذلك.. هناك "يد خفية"، صحيح ! تتحكم في الجميع، وأقوى في الغالب من الجميع، ولا تتعارض مصالحها.. ولكنها ليست تنظيمات سرية أو لوبيات عسكرية أو جماعات ضغط.. إنها يد "البيروقراطية الإدارية" القاتلة..
فالبيروقراطية الإدارية هي المستفيد الوحيد من بقاء ما كان على ما كان، تخشى التغيير، وتمانع ضد الإصلاح، هذا إذا كانت "بيروقراطية محايدة" (ناشئة فقط من الروتين والتكلس والأعراف البالية) أما إذا كانت "بيروقراطية فاسدة" تغلغلت في بيئات فاسدة، فإنها ستقاتل قتالا شرسا وتواجه كل جديد باستماتة..
لأن التغيير هنا، ليس خروجا من منطقة الراحة والتعود والأمان فقط ـ وهو صعب عسيرـ كما في البيروقراطية المحايدة، بل هو إضافة إلى ذلك الخروج؛ فقدان للمكاسب والامتيازات، وقد يكون إدانة ومحاسبة وعقوبة..
وعليه فإن البيروقراطية في نسختيها (المحايدة والفاسدة) تمانع ضد التغيير، الأولى: تجنبا للمخاطرة و الخروج من منطقة الأمان والراحة، والثانية: حفاظا على امتيازات الوضع المختل، وتفاديا لضرائب وعقوبات التصحيح..
فالبيروقراطية إذا هي اليد الخفية التي تقف حجر عثرة دون أي إصلاح أو تطوير أو تجديد، تمنعه من أن يقر أصلا، أو تبطئه وتعرقله إذا تقرر، وقد تقتله في المهد أو صبيا بعد أن يولد ويتحرك! إنها داء الإدارة العضال، وعقبة التطوير الكأداء..
و يمكن للإداري الفطن أن يلحظها في واقع إدارته لأي مؤسسة كانت، أو في واقع المؤسسات من حوله. فهي في مؤسسات الدولة العامة، من أعلى هرمها إلى أبسط إدارة فيها، من الرئاسة إلى المدرسة..
وهي في المؤسسات الخاصة وفي هيئات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وجمعيات.. في الشركة والحزب والنقابة والجمعية والنادي..
في الجميع، ويمكن أن نلحظ أثر البيروقراطية والرتابة القاتل، وكيف تغتال روح الحماسة والتجديد والتوثب.
هي في الجميع، وإن بنسب متفاوتة، حسب حجم المؤسسة، وعمرها، وتشعب مجالات عملها، وهو ما يفسر أن نصيب الدول ومؤسساتها منها عظيم هائل تتقطع دون تفكيكه وكسره أعناق الرجال ذوي الهمة والعزيمة والمضاء، فكيف بالمبطئين والمترددين..