تستعد مدينة تنبدغة نهاية الشهر الحالي، لإطلاق معرض للتنمية الحيوانية بمبادرة من البلدية، وبدعم من وزارة التنمية الريفية، ويسعي المعرض لتبيان فرص الاستثمار المتاحة في مجال التنمية الحيوانية لولاية الحوض الشرقي عموما، ومقاطعة تنبدغة بشكل خاص، وسيتم افتتاح المعرض من طرف رئيس الجمهورية.
سيسمح المعرض لكل الفاعلين بالتعريف بمنتجاتهم، ومبادراتهم، كمؤسسات القطاع الوصي وشركات انتاج الالبان، والمنظمات الغير الحكومية، وكل الفاعلين المباشرين وغير المباشرين، كما سيضم المعرض ورشات لتدارس وضعية القطاع من اجل الخروج بتوصيات قد تسهم في تطويره.
ولإثراء تلك الورشات المزعومة أقدم هذه المساهمة المتواضعة.
قطاع التنمية الحيوانية قبل جفاف السبعينات
قبل سنوات الجفاف كانت نسبة امتلاك الفرد الموريتاني للماشية هي الأعلى عالميا، وتميزت تلك الفترة بتثمين كبير لمنتجات القطاع، نظرا للتناغم الحاصل بين حياة الترحال وأنماط الإنتاج التقليدية غير التكثيفية، كما ان الموارد الطبيعية كانت لا تزال قادرة على توفير متطلبات القطعان الغذائية، دون الحاجة للمكملات العلفية مع المحافظة على استدامة تلك الموارد.
ساهم ضعف خدمات الصحة الحيوانية في ضبط اعداد القطعان، بحيث لم تتجاوز قدرة الأرض على الاستيعاب (الحمولة الرعوية)، كما تميزت تلك الفترة بمستويات تملك عادلة، حيث ان القطعان مملوكة من عدد كبير من الملاك الصغار والمتوسطين ولا تنحصر في ايدي قلة كما هي الحال اليوم.
ابان الاحتلال اكتفي المستعمر الفرنسي بتوفير بعض الرعاية الصحية للقطعان، وجباية الضرائب بعد ان استطاع حصر اعداد الماشية، بينما شكل الاستقلال فرصة للتحرر من دفع الضرائب مقابل التنازل عن كثير من المطالبات الاجتماعية.
لعب قطاع الثروة الحيوانية دور القاطرة للاقتصاد الوطني طيلة قرون، حيث تشكلت منصة لتوزيع منافعه، تميزت بالإنصاف والتضامن والكفاءة والعدالة واحترام كرامة الفرد، وكل ذلك وفق مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء.
القطاع بعد سنوات الجفاف
اثناء جفاف الساحل تعرضت القطعان لخسائر فادحة نتج عنها نفوق نسبة كبيرة، خصوصا من الابقار والاغنام، مما تسبب في الهجرة الكبرى من الريف للمدينة، تلك الهجرة التي سترسم ملامح المشهد الاقتصادي والاجتماعي للبلاد لاحقا، ليتراجع دور القطاع خلال عقدين من الزمن تقريبا.
ترافق انحسار موجة الجفاف مع تبدلات وتغيرات كبري في المشهد الاقتصادي ناتجة عن الهيكلة الاقتصادية والخوصصة، حيث ظهرت طبقة من الأغنياء الجدد استثمروا بشكل سريع في القطاع، مما أتاح لهم مكانة اجتماعية مرموقة فضلا عن توفر ملاذ شرعي للتهرب الضريبي وتنظيف الأموال وإمكانية الحصول على الدعم الحكومي.
ان هيمنة كبار الملاك على مستويات التملك سمحت بتشكل جماعة ضغط هي الأقوى على المستوي الوطني، فصوتها يعلو على كل الأصوات الأخرى، سواء تعلق الامر بالمنتظمات الرعوية او شركات الالبان او مربي الدواجن، اما صغار الملاك فصوتهم خافت لكي نقول انهم على الوضع الصامت.
ساهمت خوصصة قطاع الصحة الحيوانية وبرامج التدخل الحكومي في ازدياد اعداد القطعان بشكل يفوق قدرة الوسط البيئي مما ساهم في تدهور التربة وتصحر مزيد من الأراضي لتتراجع جودة المراعي وتختفي تقريبا النجيليات المعمرة صمام الأمان في السنوات العجاف.
تميزت هذه الفترة بظهور مبادرات لتثمين القطاع، لعل أهمها مصنع السيدة نانسي اعبيد الرحمن لتثمين ألبان صغار المنتجين، معبدة الطريق لثورة في مجال صناعات الالبان في بلادنا، مما ساهم في خلق قيمة مضافة للقطاع، والأهم من كل ذلك انها ستدفع العديد من المنمين لهجرة أنماط الإنتاج التقليدية الغير التكثيفية والتحول الي أنماط شبه تكثيفية ذات اضرار بيئية أقل وفوائد اقتصادية جمة.
ساهم مشروع تنمية الشُعب في تطوير قطاع الدواجن حيث انتشرت المزارع القروية شبه التكثيفية وزاد الاقبال على استهلاك اللحوم البيضاء كما ظهرت مفاقس وطنية أصبحت توفر الصيطان بعد ان كانت تستورد بالكامل من الخارج.
سبل تطوير القطاع
ان تطوير القطاع يبدا بإحصاء شامل للقطعان والملاك وضبط الملكية ودمج القطاع في الاقتصاد الوطني، بحيث يصبح كسائر القطاعات الإنتاجية، وبذلك فقط يتوقف عن كونه من القطاعات العرجاء المستدرة للعطف والمدمرة للوسط البيئي والموفرة للملاذ للموارد المشبوهة؛
لتطوير القطاع لا بد من الفصل التام بين نمطي الإنتاج السائدين، حيث يجب ان يكون الولوج للمراعي الطبيعية متاح بشكل مجاني فقط لصغار الملاك، بينما يتم فرض ضريبة التدهور البيئي على كبار الملاك في حين يجب ان يقتصر الدعم للقطعان المعتمدة على أنماط الإنتاج التكثيفية وشبه التكثيفية وذلك من خلال دعم الزراعة العلفية لتقليل كلفة شراء الاعلاف المالئة؛
التوقف التام عن برامج شراء المركزات العلفية (الاعلاف مثل القمح و"ركل") نظرا لعدم جدوائيتها الاقتصادية واستنزافها للعملة الصعبة ناهيك عن اضرارها الفيزيولوجية على الماشية والاستعاضة عن ذلك بدعم الزراعة العلفية لتحقيق قيمة مضافة وخلق فرص عمل وتوفير اعلاف ذات قيمة غذائية عالية ومفيدة صحيا للماشية.
تشجيع شركات الالبان الوطنية فهي تنافس منتجين مدعومين؛
تشجيع مبادرات المنمين لإنتاج الاعلاف وتسهيل نقلها وتداولها وقد بدأت الوزارة فعلا بمبادرة في هذا الصدد؛
توفير منظومة قرض فعالة؛
تشجيع إقامة مزارع أمهات البيض، فالبيض لا زال يستورد للأسف؛
حماية القطاع من سطوة قطاع الصناعات الاستخراجية حيث ينافسه بشدة على اليد العاملة.
ان الشروع في اصلاح حقيقي وجذري لقطاع التنمية الحيوانية، يحتاج الي إرادة سياسية قوية، وإستراتيجية ناجعة ناجمة عن توافقات لكافة الفاعلين في القطاع، وعندها فقط لن نكون مضطرين لشراء القمح بأموال الفقراء لنجدة قطعان الأغنياء، خصوصا ان المشكلة صارت مزمنة ومرشحة لمزيد من التفاقم فالوسط البيئي يتدهور والمناخ يتغير.
ان تطور التنمية الحيوانية منوط بتثمين منتجاتها، وخاصة الالبان، ولن يكون ذلك متاحا، الا في حالة سيادة أنماط الإنتاج التكثيفية وشبه التكثيفية، وهذا يحتاج لتطوير زراعة الاعلاف وتسهيل نقلها وتداولها على عموم التراب الوطني، وفي انتظار تحقق ذلك سيظل القطاع شوكة في قدم جهود التنمية المستدامة.