قد يتبادر إلى ذهن ضعفاء العقول من أصحاب فكر اللاوعي البيروقراطي أن كل ناقد للفكر الديمقراطي موافق حتما ومؤيد للقهر والاستبداد والظلم والكبت وكل ما يرمز للتخلف و ثقافة القرون الوسطى .
إننا حين نقوم بنقد الفكر الديمقراطي لا يعني ألبتة أننا نساند الظلمة والطغاة ، بل إننا ضد تصرفاتهم العنجهية وعقولهم الخشنة .
لا نقوم بنقد الديمقراطية لذاتها كفكر ظهر في المجتمعات الغربية وتقبلته النفوس شيئا ما في بعض البلدان العربية كمصر ولبنان وحسب ، إننا ننقد الفكر الديمقراطي من حيث المخرجات التي قدّمت كنموذج حضاري وبديل لا مفرّ منه لكل من أراد أن ينعم بحرية وسلام.
نقوم بنقد الفكر الديمقراطي من منظور حضارتنا الإسلامية التي استطاعت أن تثبت لكل منصف أن آلاءها ونعماءها جعلت الغربيين ـ أنفسهم ـ ينعمون بسلام إبان حكمها في الغرب الإسلامي طيلة عقود من الزمن .
نقوم بنقدها على أساس أنها لم تقم على وحي سماوي ولم تؤسس وفق شروط تلزم الكل بتطبيق مبادئها وقيمها إنما قامت على أساس ’’ الحق دائما مع القوي المتغلب .
نقوم بنقدها على أساس أنها كذلك أفضل وسيلة للضحك على الذقون من أجل امتصاص دماء الفقراء باسم العدالة في الحرية وهل يمكن للحرية أن تكون محل جدل حتى تعرض للعدالة؟ الإجابة ببساطة ’’ الظلم بالسوية عدل في الرعية .
بمنطق آخر وبمنظور فلسفسي وسفسطائي نقوم بنقد الفكر الديمقراطي بالديمقراطية ذاتها ، على اعتبار أن الركيزة الأساسية التي قامت عليها هي حرية الرأي وتقبله دون امتعاض ولا تشنج .
التصرفات العشوائية الطائشة الشيطانية التي يقوم بها من ينسبون إلى الإسلام ويحاولون مُواجهة الفكر الغربي بالقوة خارجة عن قاموسنا ، بل نعتبر من يتصرف هذا التصرف أن مدارس المارستان أولى به من أي شيء آخر .
نقوم بنقد الفكر الديمقراطي لإيماننا أن الفكر لا يواجه إلا بالفكر ، وأن العقل لا يواجه إلا بالعقل ، على هذا الأساس قامت حضارات الأمم والشعوب وبه نتعامل معكم يا أصحاب الكهنوت الديمقراطي .
نقوم بنقد الفكر الديمقراطي كخيار فرض على عقولنا أن تقبله مكرهة ، أن تقبله ولو بالبارجات الحربية والصواريخ العابرة للقارات وحتى بالقنبلة الذرية ، بل بالموت البطيء ’’ حصار بري وبحري وجوي.
أننا حين نقوم بتفسير الديمقراطية نقول :
منها ما هو مثالي خيالي لدرجة أنه بقي لشرفه رهينة في صفحات الكتب والمجلات والموسوعات كجمهورية آفلاطون وآراء أرسطو وفاضلية الفارابي ’’ ما الذي خرج لنا إذن ؟؟
خرجت لنا نظريات لسان حالها يقول : يجب أن نمسح شعاع الفضيلة من الوجود ونُحل محلها مجتمعا إباحيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، مجتمعا يصف الدين والتدين بآفيون الشعوب ومخدّرها ، مجتمعا يقول لا إله والحياة مادة ، مجتمعا لا يعرف للقيم معنى ، ولا للأخلاق وزنا ’’ هكذا يسهرون ومن أجله يخططون وينفذون .
لماذا يحل لهم ما لا يحل لنا ويحل لنا ما لا يحل لهم ؟ جعلوا من الغرور تاجا ومن الكبرياء عاجا ، وجعلنا من مثاليتهم نبراسا ، ومن إباحيتهم تحضرا ، لا يحق لنا التفكير في مصيرنا وسياساتنا وفق مبادئنا وحضارتنا ، لا يحق لنا حتى التفكير في ماهية إنسانيتنا ، خلقوا ليكونوا أسيادا ونحن العبيد ’’ الوصاية الفرنسية والبريطانية والأمريكية على المستعمرات القديمة والجديدة أنموذجا ’’ إنها البراكماتية في أبهى حللها .
متى أصبحتم عقلاء ومتى أصبحنا مجانين ؟
بمنطق الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: لماذا لا يحق لنا العيش دون وصاية كأطفال في سن الروضة ؟ لماذا لا يحق لنا تقرير مصيرنا دون اللجوء إلى مجلس خوفكم وأمنكم ؟ هل هذه ديمقراطية ؟ أم أن الديمقراطية أصبحت كالثوب لا بد لكل شخص من مقاس حسب لون بشرته ومعتقده ؟
أيها الديمقراطيون التقدميون شيء من الصراحة ولو لمرة في العمر؟
قلتم أن صناديق الاقتراع هي الفيصل والسبيل الوحيد إلى الحكم ... نحن معكم في هذا ’’ لماذا لا تتركوا عقلائنا وعلمائنا يعاملوا مجانيننا وأغبيائنا كمعاملة مجانينكم وأغبيائكم لعقلائنا ؟ ببساطة أنتم تعاملوننا بنظريات ميكافيلية ليس إلا .
الفكر الديمقراطي ليس هو الأفضل ’’ لكن حين نقارنه بالعلمانية الراديكالية المتطرفة نقول استطاع الفكر الديمقراطي تقليص الهوة بين الطبقة البورجوازية من جهة والطبقة الكادحة من جهة أخرى على الأقل من حيث فرص التبادل السلمي للحكم .
يقول ونستون تشرشل ’’ الديمقراطية هي أسوأ نظام حكم باستثناء كل الأنظمة الأخرى . الفكر الديمقراطي حطّم كل قيم الحضارة والإنسانية مما جعل الإنسان يفقد إنسانيته ، يفقد كرامته ، يفقد ذاته ، طبعا الوسائل المادية وإن تساوت فيها الناس لا يمكنها جلب السعادة وإنما تهدئ أعصاب تلك الشعوب .
لقد بالغ الفكر الديمقراطي في إعطاء الفرد حريته ، وساعد في كبح جماح القيم الإنسانية المجتمعية ، لا حق للأب في توجيه ابنه أو بنته توجيها تربويا ، توجيها قيميا ، توجيها حتى إنسانيا ، والسبب في هذا أنه يتناقض مع مبادئ الفكر الديمقراطي .
يقول أوسكار وايلد ’’ الديمقراطية ببساطة هي ضرب الشعب عن طريق الشعب من أجل الشعب.
لإن كانت النظم السابقة للفكر الديمقراطي قد ظلمت الفرد وكبحت حريته إلا أن الديمقراطية هي الأخرى ظلمت المجتمع وسلّطت عليه كلابا بوليسية باسم الحرية ، باسم الكرامة ، باسم الإنسانية حتى.
المجتمع في نظر الفيلسوف بول سارتر ’’ لا ينتج القيم ولا يفرضها ، بل هي قناعات غير مكتسبة ، يقررها الفرد متى شاء وكيف شاء وعلى الطريقة التي يشاء .
لقد ساعد الفكر الديمقراطي في صناعة الديكتاتورية الفوضوية بحنكة وذكاء ، استطاع أيضا في أن يصنع من الشعوب ميدانا للفروسية والتباهي بالذات ، ميدانا لعرض عضلات التطاول على الآخرين دون عناء ’’ يحق للفرد الديمقراطي أن يسبّك ويسب أباك وينفي حتى نسبك من أبيك , وليس لك إلا الرد بالمثل ’’.
إن عبارة " حريتك تنتهي حين تبدأ حريتي " لا مفهوم لها في واقع المجتمعات الديمقراطية ، بل إني أعتبر هذه الكلمة من مثاليات جمهورية آفلاطون ونبوءات أرسطو ، الفرد في المجتمع الغربي لا يعرف للحرية حدودا .
إن الشر الذي أنتج الخير لا يمكنه أن يورث لهذا الخير خيرا ، الفكر الديمقراطي وُلد ونشأ في أحضان الظلم والاستبداد الكنسي في حقبة العصور الوسطى ، تربى على يد من كانوا يغازلون الكنيسة في الخفاء ويعلنون مناصرتهم للطبقة الكادحة ، ترعرع على يد من كانوا يشرّعون للبورجوازيين حق شراء الأرض بمن فيها من العبيد ’’ النفاق يورث الحقد والحقد يورث الحسد.
الفكر الديمقراطي ظلم الشعوب وصادم الفطرة وصادر حرية الجميع ومنحها للفرد على أساس من الطبقية السياسية ، سلب الإنسان إنسانيته ، أورثته فوضى في التفكير ، فوضى في الأخلاق ، فوضى في القيم ’’ لا إنسان مع الديمقراطية ولا ديمقراطية مع الإنسان .
المهدي ولد أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي