يعني التخلف الثقافي لغويا القعود أو العجز عن مسايرة الركب، ويعني اصطلاحا التأخر الزمني والقيمي والسلوكي عن ركب الحضارة وحتما عندما يدع الإنسان أو الجماعة القيم السائدة في حياتهم تميل إلى الرتابة والتكلس والجمود، أو يعمدان إلى تبرير واقعهما المتأخر والسيئ.
رصد الدكتور مصطفى حجازي في كتابه (التخلف الاجتماعي)، بعضا من الظواهر الثقافية الناتجة عن شيوع التخلف الثقافي في المجتمعات، وقد ذكر من أبرزها:
ـ سرعة تدهور الحوار العقلاني والتفكير المنطقي،
ـ التعصب والتحيز وسرعة إطلاق الأحكام القطعية والأحكام المسبقة،
ـ سيطرة التفكير الخرافي والسحري.
ولا شك أن التغني بالأمجاد وقد مضى أهلها دون التجديد الذي تمليه التحولات التي ينقط سيلها وتتغير مسبباتها، من العوائق الكأداء أمام التحرر
من هنا يتضح أن التخلف الثقافي يشكل القاعدة العريضة التي تحتضن كل معوقات النمو، وكوابح التطور، وموانع الرقي المجتمعي.
في ظل غياب استراتيجيه ثقافية واضحة المعالم، مبنية على معطيات ومستجدات الحداثة في خضم العولمة، يلقي الركود والإبهام بظلهما القاتم على المشهد الثقافي المتعثر ويقيد كل السياسات:
ـ الحكومية المهلهلة بفعل غياب المختصين،
ـ والخصوصية "الخجولة" والنفعية، التي تمليها مع ذلك ضرورة اعتماد مسوغات الحفاظ على ثلاثية:
· الهوية القلقة،
· والخصوصية المشوهة،
· والموروث التراثي التراكمي المهمل الذي يعاني الضياع ويشكو التخبط على مستوى الاهتمام الوطني في ظل غياب تام لإستراتيجية ثقافية واضحة المعالم،
على الرغم من المجهود الكبير الذي اضطلعت بها مؤخرا لجنتنا الموقرة في (اليونسكو) بمبادرات قيمة وواعية متمعنة من طرف سعادة السفير شيخنا ولد النني وذلك منذ أول لحظة بعد تعيينه؛ وهو دور ريادي في التعريف بشكل مستجد وبأدوات العصر المتاحة نظريا وعمليا بتراث بلادنا "الغني" بتنوعه والمميع في حال واقعه. وقد استطاع السفير وطاقمه بفضل هذا الدور المستنير أن يحصل على عضوية "اللجنة الحكومية الدولية لحماية التراث غير المادي" التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم.
ويبقى الأمر المقلق على الشأن الثقافي ببلد تُعمي جل أفراد طبقتَه المتعلمة الادعائيةُ المفرطة والاغترار بالألقاب الكبيرة المفرغة في دلالاتها من كل معنى، والمهشمة في كل مبنى، التمييع الحاصل للموروث الثقافي والتعطيل الصارخ للعملية الفاترة نحو الالتحام بالركب الأممي.
وتأتي المهرجانات والكرنفالات الرخيصة والأدبية المبتذلة والتي تزداد أعدادها "لكل مدينة وبلدة" على "عقم" بلا محتوى وفي غياب ملحوظ لأهداف مرجوة التحقيق لصالح الثقافة والهوية الناصعة؛ غوغائية باهظة التكاليف من ميزانية الدولة على حساب التنمية التي، وحدها، هي القادرة على صناعة الوعي وإعداد المواطن لتحمل مسؤولياته كلها ودرء أسباب تمييع الثقافة وتشويه التراث والحفاظ على المدن القديمة التي تتعرض في كل عام للاجتياح الغوغائي النفعي والتلوث والتشويه من دون رصيد من البحوث والتحيين وبيع للتاريخ والحضارة أسوة بكل مدن العالم ذات الطابع التاريخي من معابد أثينا وسور الصين العظيم إلى تدمر بسوريا مرورا بالأهرام وقصر "فرساي بفرنسا " ومعابد "آنكور" بتايلاند والأهرامات المصرية وغيرها، مع اهتمام بالترميم الذي يكون بالمواد الأصلية مخافة التشويه.
هي إذن مراجعة جد ملحة لجميع أوجه الثقافة بشقيها القديم والحديث حتى تشكل الإطار الأمثل لوضع "إستراتيجية ثقافية" يعاد التفكير فيها مليا وتكليف القادرين على صياغتها لتلعب الثقافة دورها الغائب وتسهم في بناء الدولة والتعريف بها والاستفادة الاقتصادية الكبيرة منها.