حالة "حرية"..!! / حبيب الله ولد أحمد

اكتشاف حالات من العبودية في بلادنا أمر طبيعي، وليس بحاجة لصراخ بعض الحقوقيين ودموعهم "التماسيحية" أحيانا، ولعقهم لجراح الضحايا، لدرجة محاولة فرض القوانين بالقوة، وتطبيقها بالإرهاب، وكأنهم دولة داخل دولة، وقانون داخل قانون، ودستور داخل دستور، ومجتمع داخل مجتمع..!!

إن الدولة مطالبة بالاعتراف بوجود العبودية، وتطبيق ترسانة القوانين والنظم التي صدرت بهذا الخصوص، وطي صفحة العبودية بإنصاف الضحايا، وإغلاق الباب مستقبلا أمام كل أشكال الرق، ليس في المجتمع العربي الموريتاني وحده، ولكن أيضا في مجتمعات الزنوج والبربر أيضا، فلولا غياب الدولة لما كرت المنظمات الحقوقية ب"خيلها ورجلها"، نهارا جهارا لفرض ما تراه و تعتقده، ومحاولة تركيع السلطات، وحملها – بتسرع وتشنج في بعض الأحيان - على الإذعان لمطالبها..!!

وربما يتساءل البعض لماذا اكتشفنا حالات كثيرة من العبودية، ولم نكتشف حالة "حرية" واحدة في موريتانيا حتى الآن..؟!!

يمكنني الإدلاء بالشهادة التالية، أمام السلطات العليا أمنيا وقضائيا وحقوقيا، وأتمنى توثيق هذه الشهادة، والعمل بسرعة بمقتضياتها، على اعتبار أن العبودية بمختلف أنواعها عندنا قاعدة وليست استثناء عكسا للحرية، وحتى لا يقال إنه لا توجد في بلدنا "حالة حرية" واحدة على الأقل..!!

لقد اكتشفت حالة "حرية" فريدة ونادرة، وأظنها الأولى من نوعها، ليس في موريتانيا فقط، ربما أيضا في الوطن العربي كله..!!

وجدت مواطنا موريتانيا، يسير مرفوع الرأس، يحمل كل أوراقه الثبوتية من شهادة الميلاد، إلى جواز السفر، واثق الخطوة، فخور بانتمائه الوطني، يعشق وطنه وشعبه، وعلى استعداد للدفاع عن الوطن الموريتاني ومواطنيه في أية لحظة..!!

يقول هذا المواطن الظاهرة :

( أنا مواطن موريتاني، أعيش في حي شعبي صغير، ورغم أنه طرفي وبعيد نسبيا من قلب المدينة، إلا انه يتوفر على مجمع طبي، ووحدات دراسية متكاملة، ومسجد كبير جامع فخم أنيق، يتوفر على ملحق عمراني جميل به مع الحدائق الغناء محظرة ومدرسة قرءا نية، وسكن للإمام، وآخر للمؤذن، ومساكن للغرباء والوافدين، ومخفر للحماية المدنية، ومفوضية شرطة مجهزة، وكتيبة درك، وسرية حرس.. ودار فخمة، مصممة تصميم أرقى الفنادق العالمية، مخصصة للضيوف، وكبار الزوار، وعابري السبيل، و بها قاعة للاجتماعات، وقاعات ترفيهية للسينما والمسرح، وملاعب رياضية متعددة الاختصاصات، ومكتبة مطالعة عامة، وحمام عمومي فاخر،ولدينا في الحي مسؤولون إداريون جاهزون على مدار الساعة لخدمتنا، مع شوارع مضاءة فسيحة ومشجرة الجوانب، وسوق عصري، يخضع لكافة المعايير الصحية، من نظافة وآليات للحفظ والتخزين والسلامة.. وفى حينا فروع خدمية للمصارف، ومؤسسات المياه والكهرباء، وأعوان للعدالة والضرائب والحالة المدنية..لدينا ساحات عمومية مجهزة لقضاء العطل بالنسبة للأسر والأطفال..ماؤها جار..خضرتها دائمة، مقاعدها مريحة، طعامها شهي، ومشروباتها باردة ونقية و موثوقة المصدر..نعيش في هدوء وسعادة، يوميا يقدم لنا رجال الأمن تحية مبتسمة ويأتي المسؤول الإداري الأول في الحي للاطمئنان علينا كل صباح، مع مسؤولى الماء والكهرباء، والطب والتعليم، والحماية المدنية، والشؤون الاجتماعية، وممثلي كل المرافق الخدمية في الحي..إنهم رائعون يبتسمون بعطف، يربتون على رؤوس أطفالنا، ينحنون لكبار السن، يسألون عن الليلة الماضية كيف قضيناها، يسألون حتى عن البعوض والفئران وكل ما يمكن أن يكدر صفو حياتنا، ولديهم كل ما يحتاجونه لحل المشاكل التي يعتقدون أنه من الممكن أن تطرح عليهم، من المبيدات الحشرية إلى الأدوية الاستعجالية ..!!..إن أولياء أمرنا يستشيروننا في كل شيء، من إزالة عثرة من الطريق، إلى بناء حجرة علاج أو دراسة، أو تشجير مساحة عمومية، أو تنفيذ صفقة لاستجلاب آليات أو تجهيزات لصالح الحي، أو توسعة سوق، أو شق طرق جديدة...يسألوننا عن آرائنا واقتراحاتنا وملاحظاتنا حول المشروع الذي يزودوننا بدراسته الفنية،وخريطته داخل الحي أو قريبا منه، وتمويله ومصدره،ومكتب الإشراف، والجهة المنفذة، وآجال سير العمل، من وضع الحجر الأساسي إلى التسليم، وطرق الصرف، وبناء على ما نقدمه لهم يباشرون تنفيذ المشروع، ويطلبون منا التطوع بالمراقبة الميدانية لسير الإعمال فيه..!!

نحن هنا سود وبيض عرب وزنوج لا مشكلة لدينا، نتعالج في نفس الغرف، وعلى نفس الأسرة، ندرس معا، نعمل معا، وأطفالنا يلعبون معا كإخوة أشقاء..

في مستشفى حينما يأتى المريض للحالات المستعجلة، فيجرون له كل الفحوصات مجانا، من فحص السكري إلى "اسكانير".. وإن احتاج الأمر "إرم" فهو متوفر..!!

إذا كانت الحالة بسيطة يعالجها طبيب عام، بمعية الممرضين والمساعدين الميدانيين، وإذا كانت حالة معقدة فالأخصائيون موجودون على مدار الساعة في مكاتبهم بالمستشفى، لا ينامون ولا ينصرفون أبدا، ويتعاملون بأريحية مع المرضى...أخصائي الأطفال، وطبيب النساء، والجراحون العامون، والمتخصصون، وأطباء القلب، والغدد، والعيون، والأسنان، والأعصاب، والتخدير، والصدر، وأخصائيو الأمراض النفسية ،والمدلكون، وأطباء المسالك البولية، والأذن والأنف والحنجرة، والأمراض الجلدية..كلهم موجودون، ولكل منهم مكتب عليه اسمه بالعربية والفرنسية، مع وجود أدلاء في المستشفى لإرشاد الأميين، وعابري السبيل على القاعات والأجنحة والمكاتب التي يوجهون إليها..!!

في الوحدات الدراسية، من الروضة إلى الجامعة، مرورا بالمدارس المهنية، والمعاهد المتخصصة، لا نحتاج شيئا، فالدولة تمنحنا الدفاتر والأقلام، والكتب الدراسية، مع زي مدرسي موحد، يحمل الألوان الوطنية الجميلة ويذيب الفوارق بين التلاميذ والطلاب،ويقدمون منحة شهرية للتلاميذ الفقراء، مع أننا لم نعد فقراء بعد أن شبعنا عدالة وإنصافا، فالدولة نحسها معنا في غرف النوم، في مهد الطفل الوليد، وعلى مقعد الشيخ الكسيح..نحسها تقود العميان، وتسند العجزة وتحنو على الأطفال...مسؤولوا الدولة هنا لا ينامون...عندما يبكى طفل تأتى سياراتهم للاطمئنان عليه..عندما يحدث تماس كهربائي في احد المصابيح تأتى الدولة كلها هنا، من أرفع مسؤول إلى ابسطه، ولا ينصرف أحد قبل معالجة الخلل، والتأكد من تطويق الخطر..!!

مرة سقطت قطعة حلوى صباحا، على طفلة صغيرة كانت تسير خلف والدتها، ووقعت القطعة بين صخرتين كبيرتين على الرصيف، فعجزت الأم عن التقاط القطعة التي لم تفتح بعد، فبكت الطفلة بكاء شديدا، وبعد دقيقتين فوجئنا بالدولة ممثلة بمسؤوليها في الحي، وقد أجابت بكاء الطفلة، ولم يكتف المسؤولون بإعطاء الطفلة علبة قطع حلوى، بدل قطعتها الوحيدة، بل حضرت جرافة حكومية، أزاحت بلطف إحدى الصخرتين، والتقط أحد المسؤولين القطعة التي كانت سليمة ومغلفة، وأعطاها للطفلة مربتا على رأسها، طابعا قبلة على جبينها، طالبا منها بأريحية التوقف عن البكاء، معتذرا لوالدتها عن التأخر في إغاثتها، متعهدا بإزالة الصخرتين اللتين بقيتا بعد اكتمال ترصيف الطريق، وتأخرت إزاحتهما لأنهما تقعان قريبا من مجرى مركزي للصرف الصحي، ولا بدمن التأني والحذر، واستخدام آليات وكفاءات خاصة لإزاحتهما، حتى لا تتسببان في عطل بشبكة مجارى الصرف الصحي في الحي..!!

إن مسؤولى الأمن، والإمام، والقاضي ، والطبيب الرئيسي، والحماية المدنية، والشؤون الاجتماعية، وهيئة النظافة والصرف الصحي، هنا في الحي يزورون كل بيت وشارع وزقاق خمس مرات، الخامسة صباحا، والعاشرة صباحا، والثالثة زوالا، والثامنة مساء، والواحدة صباحا، هذا مع دوريات تذرع الحي جيئة وذهابا، وعلى مدار الدقيقة، ولدى كل شخص في الحي الأرقام الشخصية لمسؤولى الدولة هنا، ومصالحها الخدمية، وقد لاحظنا أنهم يحضرون بعد عشر دقائق على الأكثر لتلبية أي نداء يوجه إليهم، من الإبلاغ عن حريق، إلى الإبلاغ عن دابة تعرقل حركة المرور أو تزعج الأطفال.!!..

هنا تعمل كل الدوائر الحكومية والخدمية بأبواب مفتوحة..لا طوابير..لا حراس..كل مسؤول في مكتبه يستقبل الناس بأريحية ، حتى الإذاعات المحلية والتلفزيونات والمواقع الإلكترونية المستقلة، ووسائل الإعلام الحكومية، تستفسرنا يوميا عن برامجها، وأهميتها بالنسبة لنا، و اقتراحاتنا وملاحظاتنا بشان تلك البرامج، وكثيرا ما لاحظنا أن كل وسائل الإعلام الحكومية والمستقلة تتنافس على إرضائنا، والسهر على الأخذ بنصائحنا واقتراحاتنا، وتلتزم الحياد والمهنية والموضوعية والتجرد والأمانة في كل ما تزودنا به من أخبار ومستجدات وطنية وعالمية، وتفرد معظم البرامج والصفحات لشؤوننا المحلية التي لا تغفل منها صغيرة ولا كبيرة، وصحفيوا وسائل إعلامنا كلهم محترمون ومهنيون، لا يمدحون من أعطاهم، ولا يذمون من منعهم، ويضعون نصب أعينهم مسؤولياتهم الدينية والوطنية والأخلاقية والمهنية، ويحكمون ضمائرهم عندما يتناولون أي موضوع إخباري أو تحليلي..!!

تمنحنا الدولة هنا علاجا مجانيا، وتعليما مجانيا ويحملون إلينا مع نهاية كل شهر مؤونة شهرية تحوى قناني الغاز المنزلي، وحفاظات الأطفال، والرضاعات المحضرة، مع الأرز والشاي والزيت، والدقيق والخضروات، والسمك وأنواع اللحوم والمعلبات،مع خبز صباحي وحليب أطفال توزعه على المنازل، وبالمجان سيارات صغيرة نظيفة، تحمل شعار وعلم الجمهورية، ونسكن منازل أقامتها الدولة مجانا للفقراء، و مقابل اقتطاعات بسيطة من رواتب الموظفين، وتتحمل عنا نفقات الماء والكهرباء والصرف الصحي..!!

ويتوفر الحي على حافلات مجانية لنقل الطلاب والموظفين، مع بقية سكان الحي..!!

وعلى أطراف الحي تنتشر المزارع والحقول التي منحتها الدولة لحملة الشهادات المتخرجين حديثا،وبعض المزارع تسيرها نسوة من أهل الحي، منتظمات في تعاونية تحظى بدعم تقني ولوجستي من الدولة، والخضرة التي تسيج الحقول هنا وهناك، تنطق بجمال مشروع حماية البيئة المحلية الذي زرع حتى الآن 100ألف شجرة، عبر مساحات شاسعة على أطراف الحي وفى مختلف مداخله..!!..

ومرة قال لنا كبير مسؤولى الحي لا تشكروا إلا الله وحده، فهذه حقوقكم، هذا نفطكم، وحديدكم، وذهبكم، ونحاسكم، وسمككم...نحن لم نعطكم شيئا من جيوبنا...نحن فقط مؤتمنون على أن نوصل لكل واحد منكم نصيبه من ثروة بلده،وشمس بلده، ودفئ بلده، وعدالة بلده، لا أقل ولا أكثر..لا نريد صوتا، ولا تأييدا، ولا شعبية..هذه واجباتنا كمسؤولين، وهذه حقوقكم كمواطنين..!!

إنني سعيد بوجودي في وطن يقدم لنا كل هذه الخدمات، وطن نحسه معنا، نشعر بقوته وهيبته، يطعمنا الكرامة والمساواة أمام القانون...أنا مواطن موريتاني حر كريم على ارضي التي أحبها، وأعطى روحي بسخاء دفاعا عنها وعن سيادتها ووحدة أرضها وشعبها..إنه وطن يستحق علينا الحب والتضحية، لأنه يحبنا ويضحى من أجلنا)

هذه حالة "حرية"، أعرضها عليكم جميعا سياسيين، قانونيين وحقوقيين، وهيئات مجتمع مدني، للمسارعة بإنصاف الضحية، وعلاج آثار "الحرية"، والتعويض لصاحب هذه "الحالة" الغريبة والشاذة عن كل ما لحق به من أضرار مادية ومعنوية، لأنه شكل حالة نشاز في مجتمع يعانى العبودية بكل ما تحمله من معنى قدحي، فالذي لا يعيش عبودية عرقية بدنية عنصرية، يعيش عبودية اقتصادية، تسلبه كل شعور بالكرامة الآدمية، ومن لا يعانى هذين الصنفين من العبودية، فلابد أنه عبد لبطنه وأهوائه وعقلياته، إذ الم يكن عبدا لشيخ، أو ورد، أو تميمة،أو قبيلة، أوجهة، أو ثقافة، أو تيار سياسي، أو مدرسة فكرية، أو مرض من أمراض القلوب..!!

إن مثل هذه الحالة الغريبة "الحرية" هي التي علينا البحث عنها، وتخليص أصحابها من الوهم والسراب، بل حتى من مجرد الإحساس بأمل مهما كان ضعفه في الشعور ب" الحرية"، وما يؤدى إليها من قول وعمل..!!

2. أبريل 2013 - 11:44

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا