رغم أن القبيلة كجماعة بشرية ظاهرة إنسانية طبيعية، ومرحلة مهمة في مراحل التطور التي ستعرفها الجماعة الإنسانية، عبر الأطوار والعصور، ورغم أدوار القبيلة الخطيرة والمتعددة عبر التاريخ، وما ألزمها الإسلام أثناء ذلك وقلده إياها فيما بعد من واجبات، وأناط بها من أدوار شرعية واجتماعية لا جدال فيها،
أدوار لا يستهان بها ولا ينكرها إلا جاحد أو مكابر، يعززها الرحم وأواصره ويكتنفها العقل وتبعاته، ضف إلى ما سبق اعتماد أفراد القبيلة في الحماية والدفاع في الزمن الماضي القريب منه والبعيد، ليلا نقول الحاضر، على العصبيات القبيلة، شحنا وتجييشا وإغراء..
الخ في بلاد السيبة وعند غياب الدولة المركزية وسلطتها الموحدة والواحدة، وعند غياب القانون أيضا، كما كان الحال عندنا في هذه الديار، غياب وفوضى عرفنا محنه وعرفته الحواضر لدينا والبوادي، قرى ورحالا، منذ اختفاء الدولة المرابطية وسلطانها وأفوله، وتغلب المشيخات على أطراف تلك الدولة العتيدة وظهور الإمارات والسلطنات في المجالين التكروري ثم الشنقيطي طيلة قرون خلت، وليستمر ذلك ويدوم، وحتى نشأة الدولة المركزية العصرية من جديد، الظاهرة التي لن نعرفها ونعيشها واقعا في هذه البلاد البرزخية قبل النصف الاخير من القرن الماضي، وفي الحدود السياسية والسيادية لما سيعرف لاحقا ب"موريتانيا"، المولود السياسي الجديد على خارطة العالم وأقطار، والعضو الجديد في نادي الأمم المعاصرة، مولود اكتنف حمله وفطامه وحتى "نفخ الروح" فيه ظروفا تاريخية بالغة الصعوبة وشديدة التعقيد يصعب شرحها ويطول، ولن نفيه حقه على كل حال في هذه العجالة مكتفين بالتنويه وبالإشارة وحسب.
وبالمناسبة فموريتانيا هذه وإياها نعني ومن أجلها وفيها نحيى ونموت، مولود عزيز وكلنا لعمري لفي أمس الحاجة إليه وما زلنا، ولا يجوز لنا ولا لأي شخص آخر ومهما علا شأنه وخطره، التفريط فيه أو حتى مجرد التفكير في ذلك وعلى أي وجه كان، فموريتانيا بالنسبة لأبنائها هي المعجزة الحية بعينها، والحدث النادر الوقوع، وبالنسبة لهم كذلك، هي من جنس "ول والوركبة" وك"بيض الانوق"، والفشل هاهنا ممنوع.
ولا مندوحة لنا من الإشارة إلى واقع مرير أصبح معاشا هذه الأيام، عرف بمصطلح الدولة الفاشلة الحديثة، وهي تلك التي عادت أدراجها إلى الوراء وإلى العصبيات وإلى الطوائف وإلى الملل والنحل، وإلى التناحر والحروب الأهلية، وإلى التقسيم، وما شاكل مع الأسف، كما نراه رأي العين، على التخوم وفي المحيط.. في السودان ومالي والصومال وفي ليبيا والعراق وسوريا..
ولذا فقد حرص مؤسسو الدولة المدنية الحديثة في بلادنا، في ستينات القرن المنصرم، رغم تواضع الامكانات البشرية والمادية والبنى التحتية المتاحة في ذلك الوقت المبكر في حياة دولة الاستقلال 1960 على استبعاد الروح القبلية واطراحها والعشائرية الطائفية منها والفئوية عن الخطاب التعبوي الرسمي ونجحوا في ذلك إلى حد بعيد، ولنعم ما فعلوا.
ولقد كان الرئيس الأسبق رحمه الله، أبي الأمة الأستاذ المختار ولد داداه الحريص على قتل الروح القبلية الهدامة في كل قراراته السياسية، وفي تسميته للمسؤولين في إداراته ما أمكن، مكيفا واقع مجتمعه الريفي الصحراوي من رحل البداة ما استطاع مع فلسفة الدولة العصرية المنشودة وإكراهاتها، ومستعينا في تلك المهمة النبيلة وشبه المستحيلة، بخيرة ابناء الجماعة الوطنية الكريمة، ومن كل الأطياف والألوان، أطياف وألوان انتظمت في قوس قزح موريتاني جميل، لطالما أثار ومعا غبطة الصديق وحفيظة الحاسد وغيرة العدو.
وإلى أن حلت بالبلد كوارث الحروب الماحقة منتصف سبعينات القرن الفارط، الحرب التي أتت على الأخضر واليابس، وحدث ما حدث من الهزات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولأن المصائب لا تأتي فرادى، وكما يقال فالبلد الذي كان بالكاد يخرج من سيني الجفاف و السبع العجاف ثقيلة الوطأة، هاهو يدخل في حرب ضروس لا أول لها ولا آخر ولا حول له بها ولا قوة، وهكذا تعددت الحروب وجبهاتها، الجفاف في الداخل والحرب المفتوحة وعلى مصراعيها في الصحراء الغربية وعلى التخوم، حرب خاض جنودنا الأشاوس غمار معاركها البطولية وبشرف، طيلة أعوام متتالية، ووصلت مواجهاتها شوارع نواكشوط العاصمة وازويرات ومدن أخرى، وإلى أن حدث الانقلاب على الشرعية واستولى ضباط منهكون من أركان جيشنا الوطني على مقاليد الحكم باسم شرعية مدعاة نهاية سبعينيات القرن 1978، وبذلك أُقحم جيشنا الوطني منذئذ في معترك الصراع المكشوف على السلطة، تلك المؤسسة الوطنية العريقة التي ظل أبناؤها من جنودنا الأوفياء بل وحتى من ضباطنا الشرفاء وإلى عهد قريب، نهبا للفاقة المرة وللترك المشين، طيلة عقود أنظمة الزمر العسكرية المتلاحقة، ولأننا لا نريد ولا نستطيع التفريط في وطن أو مجرد التفكير في ذلك ولو للحظة واحدة، وطن وظل ظليل يجمعنا ونحن مازلنا وسنبقى في أمس الحاجة إليه -على الاقل من وجهة نظري الخاصة- ولسنا معنيين أو في حنين معلن أو مكتوم إلى عقود بل قرون وعهود المشيخات العبثية وعصبياتها البغيضة والسيئة، ولسنا وتلك هي المأساة-الملهاة وهو ما يغيب أو غاب ربما، عن أذهان البعض منا، في منأى عن مخاطر التفكيك والتفتيت والتركيب.. تلك الهاوية التي تردى إليها الكثيرون غيرنا من دول الفشل المريع والذريع القريب منها والبعيد والعياذ بالله تعالى. والعاقل من اتعظ بغيره.
ولذلك كان على الجميع رؤساء ودهماء من خاصة القوم وعامتهم، من غير ما استثناء، استخلاص العبر مما جرى ويجري، وفي المقام الأول رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز الرئيس المنتخب، والذي أفخر شخصيا أنني انتخبته واخترته ضمن من اختاروه، وبكامل الحرية والمسؤولية، واستقبلته وسعي وبما يليق من التكريم بمقامه الرفيع خريف 2009 ب"تاركه"، وعلى مرمى حجر من "تاتيلت" البئر، ومن دون ترتيب مسبق. وقد خصني فخامته وعلى مائدته الكريمة، ونزولا عند طلبي –وكم أنا ممنون لذلك- بلقاء ودي، لمست فيه دماثة خلق الرجل وتواضعه وعلو همته، وأذكر أنني بادرت سيادته ونحن في حديثنا الذي طبعه الود والدفء كليهما، بفكرة عنت لي يومئذ -للقرب النسبي- عن إمكان مد أنبوب مياه "آفطوط الساحلي" باتجاه الشمال، لعلاج مشكل العطش المزمن هناك، الفكرة التي أبدى فخامة الرئيس اهتمامه بها نقاشا وبحثا. رئيس الجمهورية الذي نعزيه بمصابه الجلل في شقيقه الأعز، وبما واسى به الأعرابي المجهول والشاعر، حبر الأمة عبد الله ابن عباس في العباس، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اصبر نكن بك صابرين فإنما
صبر الرعية عند صبر الراس
خير لك من العباس أجرك بعده
والله خير منك للعباس
رئيس الدولة الذي نناشده اليوم من خلال هذه المنابر الوطنية الحرة وبإلحاح، وباسم الوطن ومصالحه العليا، إبعاد شعبه وموريتانيا بالذات عن قاع المستنقع القبلي الضحل، وعن أتون الطائفية والفئوية الكريهتان، وخطابهما الساقط واللامسؤول. والنأي بل وإطراح أسراب النعقة من أغربة الشؤم والسوء، ممن مردوا على النفاق، وفي كل وقت وحين. وفي نفس الوقت نعيذه وبلدنا وأنفسنا، في أن يغتر بأوركسترا الطبالين والزمارين، ومهما علت الأصوات المبحوحة لمايسترو السعالي والببغاوات هؤلاء وأولئك، ان في الإذاعة أو في التلفزة الوطنيتان، واللتين سقط خطابها الإعلامي إلى درك الحضيض في هذه الآونة الأخيرة، وبعد أن حولهما من أوكل إليه شأنهما إلى منابر قبلية رخيصة. فمشاهدو التلفزة الرسمية ستبدي لهم الشاشة سوءتها وعند أول وهلة.. قبيلة آل فلان.. وقبيلة آل علان.. وقبيلة كذا.. وكذا.. بمدينة كذا.. "تعزي" رئيس الجمهورية.. إلخ الخ، الأمر الخطير والعجب العجاب، والذي نجل عنه قائدنا والمسؤول الأول والأخير عن حماية كيان وطنه الغالي، والبلد المحاط بالفتن والقلاقل والمطبات.. ومن كل حدب وصوب. ونسأل الله السلامة والعافية.
أما الإذاعة الوطنية فقد صودرت مصادرة كاملة شاملة ليلة الجمعة قبل الماضية، وباسم إحدى القبائل المحلية ومن دون مواربة، دعاية وتجييشا وحشدا.. والمستمع إلى راديو موريتانيا سيصاب بالغثيان والدوار، وأنا من استمعت إليه بأطار، مثله مثل مشاهدي التلفزة الرسمية وكما أسلفت وبينت، إذ أن الأولى باتت منبرا قبليا خاصا وصريحا، والأخيرة لا تختلف عن الأولى، أسلوبا وتناولا وركاكة مادة، وإذ أنه وفيما يبدو باسم الاحتفاء بذكرى أحد المشايخ مؤخرا بشمال البلاد، اختفت الدولة تماما في خطاب منابر وزارة الإعلام، لتحل القبيلة وخطابها المقيت محل الدولة الغائبة. وليس في الأمر مفاجأة ولا غرابة، حينما نكتشف من يدير الهيئتان الاعلاميتان الرسميتان حاليا، إنهما ولسوء الحظ "محمد الشيخ" المشهور "ببشراه" في تسعينيات القرن الماضي.. وبئست الذكرى ذكراها وذكراه.. الوصولي بلا منازع، وقد قيل إن لشيخ من مشيخة البلد، فيمن حملوا لقب وزير سابق، ومن بين من ألف أنظمة النفط في الجزيرة العربية وألفوه، ومنذ مدد طويلة، اليد الطولى في وصوله، وإمساكه تلابيب "راديو موريتانيا".
أما الثاني فهو "ابن بونه المدير" المصروف.. والبهلوان البائس في سيرك النفاق السياسي المكشوف، نصف المتعلم بل الأمي المعروف.
ولنا أن نتوقف قليلا، لنتساءل يا ترى لمن يقرع كهنة غث النفاق السياسي النتن الاجراس، أجراس هذا الإعلام الحكومي الموسوم بتخلف الخطاب، وهل من الصدفة المحضة أن يتم كل ذلك الآن ومن دون رتوش، وفي أوان إطلالة وزير ووجه قديم-جديد لهذا الإعلام، الذي صيروه ألعوبة، بل أضحوكة. أم تراه افتئات على الوزير المحترم وتجاوز له، وهو القادم للتو، والمربك على الأرجح، ولكل قادم دهش. أم أن الأمر فيه ما فيه من سوء الطوية والاستهانة بالقائد والقضية ثم الإمعان في إهانة الأغلبية، ومن دون أية روية، وبكامل الحرية. ولأن الحديث ذو شجون، لا أحسب فخامة الرئيس يمانع في مشاركتنا قراءة سريعة في ديوان شعر، والشعر وكما يؤثر ديوان العرب، وتحديدا لأمير القافية ابي الطيب:
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم في من شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم.
وإلى لقاء قريب، ووشيك بإذن الله. فللحديث بقية.
محمد ولد اماه كانوال-أطار