زيارة فخامة رئيس الجمهورية محمد الشيخ الغزواني الأولى للصين جاءت متأخرة، بعدما أشرفت مأموريته على الانتهاء عبارة تكررت أكثر من مرة بدءاً من مراسم الاستقبال في المطار مع مراسلة تلفزيون الصين المركزي، وانتهاءاً باللقاء الذي جرى بين صاحبي الفخامة، حيث خاطب الرئيس الصيني نظيره الموريتاني قائلا "هذه أول زيارة لكم للصين منذ تويلكم للرئاسة"، ومع ذلك تحمل هذه الزيارة دلالات جيوسياسية واقتصادية كبرى، وخاصة أنها تأتي في ظل زيادة التوتر والتأزيم في منطقة الساحل، وكذلك تأتي بعد زيارة الرئيس الجزائري للصين، وما تمخض عنها من تفاهمات جيو استراتيجية وعسكرية قد يكون لها مستقبلا دورما في إعادة ترتيب أوراق المنطقة.
الزيارة بدأت بالاستقبال الحار لفخامته الضيف الكبير والصديق القادم من بعيد وصل إلى درجة استخدام بعض المواقع الصينية لمقولة أبو الفلسفة والحكمة الصينية كونفوشيوس القائلة (有朋自远方来,不亦乐乎) أي "أليس من دواعي السرور أن يأتي الأصدقاء من أماكن بعيدة"، وهذا ما يؤكد صواب التوجه الدبلوماسي المنفتح على الشرق، والذي عبرعنه فخامة رئيس الجمهورية مبكرا من خلال البرقيات والمؤتمرات التي شارك فيها بدءاً من رسالته إلى المؤتمر الاستثنائي بين الحزب الشيوعي الصيني والأحزاب العربية يونيو 2020 ، ومرورا بمشاركته عن بعد في افتتاح النسخة الخامسة من معرض الصين الدولي للاستيراد نوفمبر 2022، وانتهاءاً بمشاركته في القمة العربية الصينية الأولى نهاية العام الماضي بالمملكة العربية السعودية.
وقد أكد فخامة رئيس الجمهورية خلال لقائه مع نظيره الصيني على التزام موريتانيا بمبدأ الصين الواحدة، كما ثمن المبادرات الأربعة التي أطلقها الرئيس الصيني "مبادرة الحزام والطريق"، و"مبادرة التنمية العالمية"، و"مبادرة الأمن العالمي"، بالإضافة إلى "مبادرة الحضارة العالمية"، وهو ما يعد استعدادا موريتانيا للانخراط في بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية جمعاء، ولعل التوقيع على اتفاقية الإطار بخصوص خطة التعاون بشأن البناء المشترك لمبادرة "الحزام والطريق تحت إشراف الرئيسين ليس سوى تمهيدا للطريق للعمل على تلاقي وموائمة الاستراتيجيات التنموية بين البلدين، مما سيسمح في المستقبل القريب بتطوير العلاقات في مختلف المجالات، وخاصة مجالات الصناعة الاستخراجية، والتنمية الحيوانية والزراعية، و البنية التحتية، والسياحة، و محاربة التصحر، والاقتصاد الرقمي، هذا بالإضافة إلى خلق نماذج جديدة للتعاون تسمح بزيادة الاستثمارالمباشر، والولوج إلى التمويلات الميسرة خاصة بعد انضمام موريتانيا إلى البنك الآسيوي للاستثمارفي البنية التحتية. البنك الذي أصبح يتبنى عدة أهداف استراتيجية على رأسها تضييق الفجوة الرقمية بين البلدان المتقدمة والنامية عن طريق تمويل مشاريع التحول إلى الاقتصاد الرقمي في البلدان النامية، كما يتبنى خيار المشاريع المناخية عن طريق تخصيص 50% من إجمالي تمويلاته حتى العام 2025 للمشاريع الصديقة للمناخ، وهو ما يفتح فرصا كبيرة أمام موريتانيا التي تصنف ضمن الدول الأكثرعرضة لمخاطرالتغيرات المناخية على المستوى العالمي، كما أنها تتصدر حركة التحول الطاقوي الذي تشهده إفريقيا نحو الطاقات المتجددة، والهيدروجين الأخضر.
إن الفرص التي يقدمها الانفتاح شرقا في ظل هذه الزيارة الميمونة لا تقتصرعلى مشاريع المناخية والبنية التحتية الرقمية بل تمتد لتشمل التعليم المهني والفني، وكذلك مجال الصحة خاصة في ظل حديث الرئيس الصيني عن مواصلة الدعم الطبي الصيني لموريتانيا، بالإضافة إلى دعم معهد كونفوشيوس وتعليم اللغة الصينية في موريتانيا ، وإثراء التبادل والتعاون الثقافي، وننتهز الفرصة لتجديد مطلبنا بربط تعليم اللغة الصينية في معهد كونفوشيوس بتعليم مهني وفني على غرار ما حدث في جل الدول الإفريقية، بحيث يصبح الخريج يمتلك لغة + حرفة أو مهنة تمكنه من الولوج مبكرا إلى سوق العمل، هذا بالإضافة إلى السعي إلى الاستفادة من تنفيذ أهداف قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي التي على رأس أولوياتها بناء مراكز للتعليم الفني المتطور في إفريقيا تحمل إسم الحرفي الصيني المشهور " لوبان"، الذي عاش قبل 2500 عام، ونعتقد أن إنشاء مدرسة لوبان في مجال حرف الصيد في اواذيبو ستلقى قبولا وترحيبا صينيا كبيرا، وكذلك مطلبنا بخصوص تطويرالتعاون بين البلدين في مجال الصحة الرقمية والطب عن بعد، و تطوير العلاقات في مجال الطب التقليدي مع السعي إلى جذب استثمارات صينية في مجال صناعة الأدوية.
وفي اعتقادي ستكون زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لموريتانيا بعد قبول الدعوة التي وجهها له صاحب الفخامة محمد و لد الشيخ الغزواني بداية لمرحلة جديدة تؤسس لنموذج واضح لعلاقات تقوم على مبدأ رابح- رابح، وفرصة ثمينة للارتقاء بعلاقات البلدين إلى مستوى علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة في جميع المجالات، مما يعود بالنفع على الشعبين الصديقين خاصة بعد استنزاف الرصيد الدبلوماسي والسياسي لخصوصية عهد المختار ولد داداه رحمه الله. زيارة الرئيس الصيني التي طالبنا بها من خلال مقالاتنا أكثر من مرة تأخرت هي الأخرى كثيرا خاصة بعد أكثر من عشرة زيارات لرؤساء موريتانيا للصين، وزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لدول في شبه المنطقة لم تقم علاقات دبلوماسية مع الصين إلا بعد الانفتاح الغربي عليها، وذلك بعد زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون لها سنة 1972، كما أنها دول لا تملك مواقف ثابتة حيال قضايا الصين الجوهرية خاصة القضية المحورية الصين الواحدة.
زيارة الرئيس الموريتاني للصين وإن كانت متأخرة إلا أنها تؤسس لمرحلة جديدة، و حملت رسائل عديدة على رأسها التأكيد على الصداقة العميقة بين البلدين الممتدة لأكثر من نصف قرن، وكذلك تأكيد الصين وبقوة على رفضها للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لموريتانيا، ودعمها لها في اتباع مسارللتنمية يتناسب مع واقعها الوطني، هذا بالإضافة إلى تأكيد موريتانيا على الخطاب الضمني بأن مصالحها الاقتصادية والتجارية لا تقل أهمية عن مصالحها السياسية والأمنية.