تتصدر المشهدَ السياسي الموريتاني هذه الأيام مشاهدُ الملاحقات القضائية-السياسية لرجل الأعمال محمد ولد بوعماتو و الاستهداف الممنهج لمجموعته التي ظلت إلى وقت قريب المستفيد الأكبر من فساد الساسة و العسكر-في موريتانيا- خلال العقدين الأخيرين.
و رغم تبرير الرئيس عزيز و أنصاره لهذه "الإجراءات" و اعتبارها "معركة فاصلة" في حروب الفساد إلا أن كثيرا من المتابعين للشأن الوطني يرون فيها أشياء أخرى غير تلك التي أعلن عنها القضاء "الواقف" تبعا لتحقيقات "شرطة الجرائم الاقتصادية".
و المتتبع لسيرة الرجل المتهَم و مجموعته -الاخطبوط المالي الكبير- يعلم أن الرجل كان اليد اليمنى لأحمد ولد الطائع أيام معاوية وأصبح الساعد الأيمن لعزيز منذ اعتدائه على كرسي الرئاسة و تصرفه في الثروة و الصفقات و الشؤون العامة للبلد دون وجه حق و بطرق غير دستورية أو قانونية و منافسا شرسا لكثير من التجار و المقاولين الآخرين و الذين قام ب"إفلاس شركات و مؤسسات" بعضهم ليخلو له الجو دون منافسة أو رقيب.
و نتيجة لذلك فقد تم منحه -كمقربي عزيز و مناصريه- كثيرا من الصفقات العامة-صفقات التراضي- و استولى على أموال و حصل على امتيازات عديدة جعلته "امبراطورا" يتحكم في كثير من الساسَة و أصحاب النياشين في بلدٍ لا كرامة فيه إلا لعسكري مستبد , أو غني مختلِس فاسد, أو من يدور في فلكهما, و يقتات على فُتات موائدهما.
لقد أصبحت مجموعة بوعماتو -و نظرا للعلاقة "الخاصة" بينه و بين أحمد ولد الطائع -في الفترة الأخيرة لحكم معاوية إحدى أهم الركائز المالية للمفسدين و المقربين من القصر -و قد كانوا أكثر منهم اليوم- لكن مكانتها تعززت أكثر منذ انقلاب الثالث من أغسطس و ما تلاه من انقلابات عسكرية و دستورية مما جعل المجموعة "دولة في دولة" و رئيسَها رئيسا آخر يبحث عن زيادة مفرطة في الأموال تماما كما يسعى الساسة و العسكر الذين يتصرفون بمنطق "عطاء من لا يملك لمن لا يستحق" فتم تحويل نوعية سيارات الدولة من "تويوتا" المملوكة لأهل الطائع إلى "نيسان" التي يملكها بوعماتو على سبيل المثال لا الحصر!
و رغم أن -بوعماتو "المفسد اليوم" دفع -بالأمس-مآت الملايين -إن لم يكن المليارات لدعم ترشّح و نجاح "رئيس مكافحة الفساد" إلا أن البعض يرى أن العلاقة بين الرجلين ساءت منذ بدأ القصر يولي وجهه شطر "رجال أعمال" آخرين -منهم "شباب" و منهم من صنعه القصر -إذ ربما تكون "العلاقة" معهم أكثر فائدة و ربحا من العلاقة مع "المجموعة السابقة" و التي أصبحت -فجأة-"رمزا من رموز الفساد" , كما أن العلاقة "الخاصة" بين رئيس المجموعة و رئيس المجلس العسكري السابق و عَداء الأخير و منافـَسته للرئيس عزيز كلها أمور ساهمت في تعقيد الموضوع , كما أن ثمة شائعات تتهم الرجلين بأشياء ذات علاقة ب"الرصاصة الصديقة" و هي كلها "جرائم" لا تُغتفر في "عالم مكافحة الفساد"!.
إن معركة "عزيز-بوعماتو" معركة واحدة ضمن حروب فساد قادها الرئيس عزيز ليُثبت فيها للعالم أنه إن عجز عن تسيير شؤون البلد على الوجه المطلوب و رفَـضَ الذهاب إلى "لمغيطي" لمواجهة المجرمين الذين قتلوا جنودنا الأبرياء-أيام حكم الرئيس معاوية- فإنه -رغم كل ذلك يعتقد أنه - "النمرود" الذي "يُحيي و يميت" , فهو يُحيي السّاسةَ بتعيينهم في الوظائف العامة الهامة و رجالَ الأعمال بإعطائهم الصفقات المربحة -صفقات التراضي و السهرات الخاصة- (و "المطارُ الدولى" و "الصكوك" و "الحزام" دليل واحد على ذلك!) و يُميت الأولين -السّاسةَ- بإقالتهم و اتهامهم باتهامات عديدة يقوم فيها بدور الادّعاء و القضاء و الاستئناف و التعقيب , و يُميت الآخرين-رجالَ الأعمال- باتهامهم بتهم اقتصادية مالية من قبيل التهرب الضريبي و "الغنى غير المشروع" و "الإفلاس المتعمد" للشركات العمومية و شبه العمومية.
لكن الجميع يعلم أن "بوعماتو" من الممولين الرئيسين لحملة رئيس رفع شعار "محاربة الفساد" و صرّح بأنه "عاش بين المفسدين و يعرفهم" و اتهم بعضا من أنصاره و أغلبيته "التابعة " و "المحاورة" ب"فساد" يصدق عليه و على صاحبه أنه "استخف قومه فأطاعوه",فقد اتهم بالفساد كثيرا من قادة معارضة الانقلاب الثاني -حينها -في مهرجان عرفات الشهير- و الذي كان بو عماتو يقف فيه خلف عزيز و يصفق كما كان عزيز يقف خلف معاوية و يصفق- فاتهم رئيس الجمعية الوطنية ب"سرقة مليار أوقية" و الفشل في تسيير مؤسسته , كما اتهم السيد بيجل ولد حميد ب"صرف غير مشروع" ل 170-200 مليون أوقية -من صندوق الضمان الصحي (اكنام) دفعها السيد بيجل ل"التفرغ لمعارضة عزيز" -و ذكرت مصادر صحفية أنها أعيدت له لاحقا بأمر من الوزير الأول بعد قرار الرئيس عزيز -مع أن السيد بيجل ادّعى أنها كانت "نفقات" تتعلق بتكاليف "مسؤولين سامين منهم ساسة و عسكر" أيام حكم الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبدَ الله .
إن قراءة سريعة لتاريخ "محاربة الفساد" في حكم عزيز توضح لنا أنها سياسة يستخدمها الرئيس عزيز ل"ابتزاز" مخالفيه و التحكّم في مؤيديه بطريقة تخرق كافة النظم و القوانين المعمول بها , يتم التراجع عنها حينما يحدث "تفاهم" بين الطرفين , و الدليل على ذلك أمور عديد منها ما صرّح به الوزير الأول السابق السيد يحي ولد أحمد الواقف في مقابلة مع الأخبار انفو بتاريخ 13/06/2009 :-و الرجل من "المعارضة المحاورة اليوم"- حيث ذكر "أن الفساد (..) مسألة متفشية في دولتنا -و في الدول المشابهة لنا, و هو ظاهرة خطيرة على التنمية يجب ان تُكافَح بشكل جدي ليس من أجل خطاب يُراد منه تخويف الناس , لأنهم (العسكر) يعتقدون أنه لا يُمكن لأحد سبق و ان سيّر قطاعا أن يعارضهم, لأنه يعرف أنه عند ما يعارضهم يمكن أن يوقفوه و يحاكموه , هذه هي وسيلتهم , و نحن لم يكتموها عنا ,.. و أؤكد أنهم قالوا هذا لنا , لكن لم أخف يوما واحدا مما قالوا" !!( انتهي الاقتباس)
كما أن ملف "رجال الأعمال الشرفاء" تم طيه دون محاكمة أو تبرئة قضائية,و اصطحب الرئيس أحدهم-بعد "حفل العشاء" في القصر كرئيس لوفد رجال الأعمال في أول زيارة خارجية له بعد إطلاق سراحهم و التي قادته إلى إيران.فإذا كان هؤلاء -الساسة و رجال الأعمال- غير "مفسدين" كما هو الأصل و كما يدّعون-فلما ذا يُسجَنون أولا؟ ثم يؤيدون مَن سَجنهم ثانيا ؟ و إذا كانوا مفسدين فلماذا يصحبهم عزيز معه؟ و يقبل دعمهم السياسي و "محاورتهم" بعد ذلك؟!! و هل كان "التهرب الضريبي" و "الأرز الفاسد" و إفلاس الخطوط الجوية الموريتانية "كذبة إبريل" أم أن "عين الرضا عن كل عيب كليلة"؟!!
إن سياسات عزيز في مكافحة الفساد -كما ذكرتُ في مقالات سابقة- سياسات انتقائية و انتقامية تستهدف إخصاع الجميع و تخويفهم و التفرد بالقرار السياسي و المالي في البلد , إذ لا صوت يعلو على صوت رئيس "محاربة الفساد" حتى و إن كان جـُل مسؤوليه الكبار و سفرائه من "القطط السمان" و رموز الفساد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد و طبـّلوا للسياسات الارتجالية الانتقامية لكل الرؤساء المفسدين و المستبدين.
و المـُحزن في هذا الأمر هو دور بعض نخبنا السياسية و معارضتنا التي تحارب في حرب خاسرة ليست حربا و لا معركة من معارك الوطن, بل هي معركة يدور رحاها بين أقطاب ألفوا "السهل الممتع" و الكرسي الوثير و المال الوفير على حساب كل مواطن و فقير , و من يقف في خندق أي منهما سوف تقتله "الفئة الباغية" فهي معركة ينبغي أن نلتزم فيها الحياد-مع موقف مبدئي يدعو إلى تحقيق العدالة و منح القضاء الحرية الكاملة و الاستقلالية المطلوبة في مثل هذه القضايا و غيرها- ثم نترك "الظالمين" ينتقم بعضهم من بعض ثم ينتقم الله من الجميع. فكم من غني و تاجر أفلسه بوعماتو و كم من معارض أخرسه بوعماتو و كم من مسؤول و "رجل شريف" سجنه عزيز و بوعماتو و اتـُّهـِمَ بتهم يندى لها الجبين و تزول لها راسيات الجبال دون أن يُمنَح حق الدفاع عن نفسه و تبرئة عرضه مما قيل عنه ليُقال له كلما دافع عن نفسه :"كيف و قد قيل أنك من أهل الفساد"؟!فلا يجد مَناصا من الإنزواء عن الشأن العام أو مـُناصَرَة "رئيس مكافحة الفساد" حتى يحصل على براءة من الفساد و أخرى من النفاق! .
و أخيرا , فإن من نِعم الله على عباده في "حروب المفسدين" فيما بينهم أنها تُبيـّن ل"لمظلومين" منهم اليوم شيئا من تجليات ظلم الأمس و تـُذيقهم بعضا من الجزاء الدنيوي المحدود لجرائم كثيرة اقترفوها و حقوق سلبوها و سِجن لمعارضين دعموه بشكل مباشر أو غير مباشر, فيذوقون طعم السجون و النوم على الحصير مع العامة و مَرارة الهروب عن الوطن و الأهل و هوان الاختفاء القسري و مطاردات الشرطة , و هي أمور ستحلّ بكل ظالم مستبد و فاسد مفسد حتى و لو ادّعى أنه أكبر المصلحين, فدعوات المظلومين و "سهام السحر" و ثارات الفقراء و المُعدمين لن تذهب سُدى, و مَن رأى أنصار الرئيس معاوية يتهمونه بالفساد و الظلم -و هو الذي "ساوى بين الجميع" في التمتع بالفساد لا يستغرب أن يرى أنصار عزيز -و هو الذي فتح جبهات فساد عديدة و جَمَعَ فأوعى - يتهمونه بالفساد و ينسبون إليه عمارات في فاس و مكناس و أخرى في باريس و لاس بالماس و حسابات سرية في سويسرا و ليختنشتاين و "كَـيْـمَنْ آيلاند" بمجرد "غيابه" عن كرسي الرئاسة أو إزاحته عنه بسبب قانوني أو غير قانوني ... و "ما من ظالم إلا سيُبلى بظالم"......
جنّب الله بلادنا شرور "حروب المفسدين" و آثارها .....