كثر الحديث في الفترة الاخيرة عن خطط \"الاصلاح\" وبرامج التنمية في العالم العربي والاسلامي ,ومهما تكن الاسباب الكامنة وراء ذلك-وهي معلومة بكل أبعادها الوطنية والدولية-فانّ بعضا من متعلّقات هذه الخطط لم يتم الحديث عنه وان حصل فبحديث خافت و نجوى غير مسموعة ,ان هذا الشّق هو الحديث عن \"المصلحين\" او جيل الاصلاح الذي سوف ينفّذ هذه الخطط و ينقذ هذه البلدان والأوطان من رواسب الفساد الاداري والمالي والظلم السياسي والاجتماعي والتنافس القبلى .
ومع أن لكلّ مجتمع قيّمه ومفاهيمه و ثقافته وحضارته التي يدور في فلكها ويرجع اليها في ايضاح ما أشكل وحلّ ما استعصى, الا ان ثمّة أمورا وقضايا ومفاهيم تختلف من امة لأخرى ومن بلد لآخر تحتاج الدرس والمناقشة كيما يتم اعتمادها او رفضها أو على الأقل تحديد درجتها في سلّم الاولويات –بالنسبة لهذا البلد أو ذاك-ولن يكون ذلك-كله-الا من خلال جيل مصلح متجرّد من العواطف والاحكام المسبقة و الرفض- أو القبول- المطلق لكل ما هو جديد أو تليد ,هدفه الاصلاح وغايته التنميّة البشرية والاقتصادية وما يصلح الناس ويجعل منهم \"آدميين مكرّمين\", ومواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ,زاده –في ذلك- البذل والاباء والثبات .
واذا كان الشعب الموريتاني واحدا من هذه الشعوب التي كثر فيها الحديث –مؤخرا-عن ضرورات \"الاصلاح\" والتنمية –وذاك ما يستحقّه ويحتاجه- فانه يزخر بثروات بشرية جمّة تضم شبابا وكهولا وشيوخا تختلف مشاربهم و أفكارهم و مذاهبهم في الحياة .و منهم الظالم لنفسه ومنهم المقتصد ومنهم السابق بالخيرات-على قلتّه-...ومن هؤلاء رجال ونساء , وقد تعاقبت أجيال من هؤلاء وأولئك على حلبة الحياة السياسية والاقتصاديّة في البلد وحلب الدهر أشطرها واكل عليها وشرب!
ولم تسلم هذه الاجيال من أحفاد \"ابن اللّتبيّة\" و\"ابن العلقميّ\" : فقد جثم الكثير من أصحاب الفساد على صدور الشعب وساموه سوء العذاب وهدموا مقوّمات بنائه وزعزعوا أركان دولته وحوّلوها الى غنم شخصي وميراث فردي وتصرّفوا فيها \" تصرّف المالك في ملكه \" فحرموا منها من خالفهم –ولو كان على حقّ- عقابا وتنكيلا,وأعطوا من آزرهم –ولو كان على باطل-محاباة و تفضيلا \"عطاء من لا يملك لمن لا يستحقّ\"!!!
ونتيجة لذلك ظلّ البلد يررزح تحت وطأة التخلّف والمديونية و يعدّ في دائرة الدول التي تقبع تحت خط الفقر –رغم توفّره على موارد اقتصادية جيّدة اذا ما قورنت بتعداد سكانه وبعض جيرانه- اذ أنه طبقا للتقرير الأخير لمنظمة التجارة العالميّة فان موريتانيا تحتلّ المرتبة السابعة والتسعين (ال97) عالميا ,ولا يزال نموّها الاقتصادي ضعيفا –رغم كونه سجّل في التقرير سالف الذكرب 4.9%- لكنّه تحوّل من نموّ جماعي الى نمو فردي ومن نمو للاقتصاد الوطني الى نمو ل \" شركات ومجموعات اهلية\" قليلة مقابل حرمان الكثيرين, حيث \"نمت\" المجموعات التي يحاصرها الفقر واتّسعت الهوّة بين الغني والفقير وأفرغت المناهج الدراسية من غايتها : فجانفت ثوابت شعبها وقيمه ولم ترق الى مستوى المناهج الأخرى المماثلة فلم تبدع ولم تؤت اكلها من تكوين وتنشئة للفرد الصالح !!!
ومرّة بعد اخرى حين تشتدّ وطأة الفقر والحرمان على النّاس و يشربون من كأس المذلّة و الهوان حتى الثمالة و يعوزهم الحصول على أدنى مقوّمات الحياة الكريمة وييأسون من أداء جيل \"الفساد\" والطاعة والمحاباة: الموالى لكل حكم وحاكم- من اجل مصالحه الذاتيّة- يراود خاطرهم وسنان التأمّل والمساءلة فتواجههم أسئلة الواقع الملحّ التي تبحث عن جواب لها بين ركام الماضي و آلام الحاضر محاولة البحث عن ماهية مستقبل \"غامض ومجهول\" -بعد ان يئست من \"حاضر\" ملئ بالمعاناة والاسى غير آسفة على \"زمن ينقضي بالهم والحزن\"!!.
ويبقى السؤال المطروح هو :\"هل نحن أحسن حالا من الدّول المجاورة حقاّ\"؟!! و هل حالنا \"حسن\" كي يقارن بحال \"غيرنا\" من \"الجار ذي القربى والجار الجنب\"؟؟ لكن الجواب –رغم وضوحه وجلائه- يبقى غير مكتمل في سبيل البحث عن مستقبل لا يتحكم فيه من خدعوا الناس باسم العدالة وقيم الديمقراطية وشعارات\" الخلاص\" و\"الانقاذ\" فقادوا سفينة البلاد و تفردوا ب\"السيف والقلم\"!! وفعلوا ما فعلوا !!! فحين توجد ملامح الزمن\"المضيء\" وتتحدّد أبعاد المستقبل -والجيل-المفقود يمكن-حينئذ-المقارنة بين ماكان وما سيكون ويكون الجواب- عندها- مجيبا للسّؤال ومطابقا للحال..
..وقد أصبح الشك يراود كل \"محاولة للتغيير والاصلاح\" خوفا من تاثّرها ب \"عقلية :المثقّف التاجر\" الذي يبيع علمه و قيّمه وبلده في سبيل الحصول على وظيفة يستخدمها لبناء\"أسرة\" و مجد مزيّف وثروات طائلة تعين على نوائب الدهر ونتائج \" بيان\" مجلس الأربعاء الذي ربما يعطي \"الغنيمة\" لمثقّف-وربما جاهل-تاجر يتاجر ب\"القيمة\" و\"القيّم\" كما تاجر ب\"الذات\" .. مثله مثل من سبقوه وضربوا له المثال \"الحسن\" في الأسوة السيّئة !!!!
كلّما حاول النّاس البحث عن النجاة والعمل للمستقبل الموعود صدّهم \"دعاة\" الرذيلة وبائعوا الأوطان المتاجرون بالقيّم المرخصون لها في هوى السلطان وأصحاب الصولجان ,وأوهموهم بأنه: \"ليس في الامكان أفضل مما كان\" وأن كلّ من في السلطة لا يسعى الا للحفاظ عليها !! وان له -في أخطائه- أعذارا ومبررات لا يعلمها الا هو أو من كان في \"حريمه\"! و أن من ليس فيها –أي السلطة-لا يسعى الا للحصول عليها!!؟ و أن هذا زمان\" الخويصة و فساد البلاد والعباد\"!و أن أحلام الشعوب ومفاهيم الحق والعدل خرافة وترّهات و أحلام سكّير و أمانيّ عاجز.!!!! وحينئذ يفكّر الناس مرّتين ويرجعون النّظر كرّتين لعلّهم يجدون شفاء لدائهم وسقيا لظمئهم.. وحلاّ لما استعصى عليهم : هل من مستقبل آمن مشرق لا مكان فيه للخونة والمتاجرين بالشعوب و آمالها من المستمتعين بآلامها ..العازفين على أوتار التّخويف والتّبسيط والتجهيل\"..؟؟ّّّ
ربّما لايستطيع المرء الفكاك من أسر النماذج السيّئة المحيطة به ,لكنه-كذلك-لا يستطيع الا ان يقرّ بوجود مجموعات –رغم قلّة عددها وتواضع امكانياتها وعدّتها-تسعى الى الاصلاح والخيروالعدل والاحسان كما لايمكنه –أيضا- الا ان يصدع بالحقّ ويقول: \" قل لا يستوي الخبيث والطّيب ولو أعجبك كثرة الخبيث...\"!! لكنّ الجواب عن السؤال وحلّ المشكلة يستلزم طرح سؤال آخر عن صفات \"جيل الاصلاح\" القادم الذي يفترض منه الخير والنفع العميم؟ اذ أن \" فاقد الشيء لا يعطيه\" و الاصلاح لا يحدث-وحده-دون مصلحين !! فهما متلازمان تلازم الفعل والفاعل.
ان جيل الاصلاح جيل :يومن بربّه –لأن من لم يخف الخالق وهو قاهر فوقه لن يخاف المخلوق وهو قادر عليه!- وهو جيل يحبّ وطنه ويخلص لشعبه ويحنو على الضعيف ويرحم المسكين ويأخذ بيد الحائر التائه........ ويعطي مثالا صادقا في البذل والعطاء فيجانف طرق الباطل و ينأى عن ركب الغواة الفاسدين .....يرفض الرشوة ويلعن آخذها و معطيها والساعي بينهما!
انه جيل يومن بوطن للجميع –من شرقه لغربه ومن شماله لجنوبه -...وطن يتآخى فيه الجميع- بيضا وسودا وسمرا - ويتّحد على كلمة سواء مفادها :العدل والرّحمة و المساواة في الحقوق والواجبات, وغايتها السعادة والهناء . جيل يصدق فيه أنهم ممن : اذا وعدوا وفوا واذا اؤتمنوا نصحوا وعدلوا في أنفسهم وأهليهم و ما ولوا و أعطوا كلّ ذي حقّ حقّه ,جيل لا يحابي لقرابة أو صلة ولا يظلم من خالفه في الرأي أو \"أهدى اليه عيوبه\"!!؟ جيل يرفض التقسيم والتّجزئة الطائفية والاجتماعيّة ..ويرفض سياسة \"غزيّة\" و \"فرّق تسد\" و حروب \"البسوس\" و\"داحس والغبراء\".... جيل يومن بأن ارادة الشعب قادرة-باذن الله-على تحقيق مرادها و انجاز غايتها ان وجدت من يدفع الثمن ويموت في سبيلها ليحيى الناس في ظل كرامتها.
جيل يفهم العصر و أحداثه ويسعى للنصر و أسبابه : فلا يتهوّر تهوّر المغرور و لا يتردّد تردّد الحائر! ..... يوافق بين الماضي و الحاضر و يستشرف المستقبل ويخطّط له و يحمي العرض ويزرع الارض و يقلوا الفساد و ينبذ التبعية والخنوع والخضوع و يجعل الوطن واهله فوق كلّ اعتبار.
جيل ثابت الجأش لا يصدّه عن هدفه طمع ولا جزع و لا ينجرّ الى حروب جانبيّة ولا يسلك بنيّات الطريق .. جيل ان أحسن تواضع وشكر وان أخطا تاب وندم واستغفر وجدّ و أصلح ..... جيل يجمع بيد الدين والدنيا ويلائم بين الفكر والواقع ف \"يجدّد الدين وينهض بالدنيا\"! ,و يأخذ من كل شيء أحسنه ومن كل أمّة أفضل ما عندها ويرفض-دون هوادة-قبيح الأشياء وسفاسف الأمور.
جيل ان غاب ذكر, وان حضر أثّر, وان شارك في\"الامر\"سعى الى زيادة المنافع وتكثيرها و تقليل المفاسد ودرئها, ولم يغمط الناس حقّهم, وقال لمن أحسن احسنت ولمن أساء أسأت !وان انفرد ب\"الامر\"لم يستأثر به, ولم يمنّ على الناس بما هو لهم ولم يبخل عليهم بما يستحقون,ولم يثقل كواهلهم بالضرائب والاتاوات, ووضع \"الرجل المناسب في المكان المناسب\"وأوكل الامر الى أهل الاختصاص كلّ في مجاله , ولم يتصرّف دون يقين من حصول المصلحة ووجود المنفعة لأن\"التصرف على الرّعيّة منوط بالمصلحة\"!.
انه جيل بدأ يدبّ ويتحرّك و بدأت جهوده تثمر وترى آثاره في كل مكان ,وان كتب له النجاح فسوف يغير من وضع البلد ويرتقي به الى مصافّ الدول التي تحترم ذاتها وشعوبها. ويحيي فيه مفاهيم : العدل وكرامة البشر والدولة التي تفي بالتزاماتها تجاه شعبها وأصدقائها,لكنه جيل قادم من مكان سحيق هارب من \"وادي الضياع\" في بلد على مفترق طرق يخشى عليه من التيه ان لم تتداركه رحمة الرحيم واخلاص المخلصين واصلاح المصلحين.