المغلوب مولعٌ أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده ، بهذه الكلمات استفتح عبد الرحمن ابن خلدون - رحمه الله - فصلا من فصول مبتدئه وخبره، مُعبرا عن حالة لاشعورية تصيب المهزومين نفسيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا، الطافحين فوق سطح الإغراءات المادية والمعنوية.
إنّ ظاهرة الاستلاب الثقافي والهيام بكل ما هو غربي، سلوك أسبل ستاره المظلم على أرجاء أمتنا الإسلامية، حيث أصبحت ظاهرة التثاقف - عندنا - ناقصة ما لم يلك أحدٌنا لهجة من اللهجات الغربية أو يستدلّ أو يتمنطق بأحاجي ديكارت وفرانسيس بايكون وهيغل وشوبن هاور وفولتير ولينين ودور كايم وداروين ،،، ونتناسى دور ابن ماجد في علم البحار، وابن العوّام في علم النبات، وابن النفيس والرازي في علم الطب، وابن الهيثم في علم البصريات، والإدريسي والقزويني في علم الجغرافيا، والبتاني في علم الفلك، والبيروني والخوارزمي في علم الرياضيات، والصبّاح في علم الفيزياء، والكندي والفارابي وابن رشد والغزالي في علم الفلسفة؛ لماذا ننظر إلى الدهاقنة الغربيين وكأنّهم كل شيء مع علمنا أنّماهم إلا سُراق فكر ومعرفة استولوا على ثقافتنا أيام هجمتهم على كل ما نملك بحجة الاستكشاف ؟
الاستلاب الثقافي هو تقمص شخصية الغير والظهور بمنطقه في مسلسل درامي غاب فيه الضمير والعقل؛ غاب فيه الولاء للذات والقيم، إنّه الذوبان الممجوج والانبطاح الممقوت.
ليس عيبا أن نستفيد من ثقافة غيرنا ولا أن نتبصّر في خبراته وصنائعه المتعلقة بالعمران البشري أوالعلاقات الإنسانية، لكن أن تموت فينا روح الإيمان بالذات والقدرة على تجاوز مرحلة الهزيمة النفسية إلى درجة أن نصبح نتعلم من الغرب كل شيء، ومثلنا الأعلى في كل شيء ، سياساته ودساتيره ، في مأكله ومشربه وطريقة تفكيره ’’ إنّه الانهيار الفكري والقيمي .
إنّ هذه الروح الانهزامية التي تتسلل داخل عروقنا كالفيروس الذي يذهب معنا أينما حللنا ونزلنا تعبّر عن حالة نفسية يصعب تجاوزها، زرعها في آبائنا وأمّهاتنا المستعمر، بحيث علّق حياتهم ومماتهم بيده وجعلهم في قبضته، يهدّدهم تارة بالعذاب إن رفضوا الاستكانة وتارة أخرى بالإغراء المالي إنهم تعاملوا معه كجواسيس على الذين رفضوا الركوع لغير الله.
لقد حاول الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي أن يجد تفسيرا دقيقا لظاهرة كهذه وسعى في أكثر من كتاب أن يجعل ظاهرة الاستلاب أو قابلية الاستعمار - كما يحب - مُقسّمة بين المُستعمر والمستعمَر، فالمستعمر، يريد منّا جهلة لا يعرفون شيئا عن دينهم ولا دنياهم ينظرون إلى دينهم نظرة سخرية وازدراء عاجزين دنيويا عن تحقيق مكاسبهم مُثقلين بالديون والهموم، يريد منّا مجتمعا منحطا أخلاقيا منقطعا عن قيمه، مَثله الأعلى هو الحضارة الغربية التي غيبت العقل وقدّست الشهوة، يريد منّا مجتمعا تغمره الأوساخ والذوق القبيح حتى ينظر إلى نفسه نظرة احتقار ويفتح له وجه الحضارة الغربية الخلفي ويحجب عنه الوجه الحقيقي للإباحية والإجرام، إنّه يريد منّا أن نستوي معه في كل شيء منحطٍ أخلاقيا ولا يريد منّا أن نُعامله مُعاملة الندية القائمة على المنافسة في مجال التكنولوجيا النووية والمراصد الفلكية وغزو الفضاء.
علينا أن نعامل الغرب بمنطقه العنجهي الناظر إلى شعوب العالم الثالث الممسوخة والمسلوبة ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، المطحونة بالفقر والأمراض والأوبئة والجهل والتخلف، التي لا تفكّر في القيادة والرّيادة إلا بقدر ما تفكر في الاستجداء والتسكع على موائد اللئام .
من زاوية أخرى حتى يتسنى لنا فهم نظرية قابلية الاستعمار المتجسدة في نظري بالاستلاب التي طرحها الفيلسوف مالك بن نبي فإنّا نقول إنّ قابلية الاستعمار التي تناثرت معانيها في كتب فيلسوفنا تجسّد جانب منها وبعمق حين تكلّم عن الأفكار الميتة والأفكار المميتة، ذلك أنّ الأفكار الميتة التي أنتجتها عوامل التعرية الثقافية التي تتمسك بالماضي وما فيه من مسرات لم تستوعب الحاضر وما فيه من آهات وأنّات، الأفكار الميتة التي صنعها الاستعمار وروّجها مستقبلوه القابعون في أحلام الماضي العاجزون عن مسايرة الواقع هم من يجسدون الشق الثاني من قابلية الاستعمار.
كما أنّ محمد قطب في كتابه ،، واقعنا المعاصر ،، حاول أن يعبّر عن الأفكار الميتة ونتائجها وإن لم يذكرها بهذا المصطلح بأنّ الذين تقوقعوا في زاوية من زوايا الدين ( التصوف ) وجعلوا الدين عِضين هم من يغذي الاستيلاب الثقافي والحضاري بإيحاءات مُغلفة بثوب من الدين، غير قابلين للتغيير ومُسايرة ومُواكبة الزمن ، ومن خلال هؤلاء الذين يسكنون كل بيت مُسلم زرعوا ثقافة الوهن وحبّبوا إلى الناس حبّ الانبطاح وعدم الاجترار وراء قوة المجتمع الغربي وحضارته التي لا تقهر.
إنّ ظاهرة الاستلاب الثقافي والحضاري لم تكن مُجرد صدفة، بل كانت نتيجة حتمية الوقوع، ذلك أنّ المعامل الإستراتيجية الغربية عملت من أجل هذا وبذلت من أجله ما تملك.
الأفكار المميتة التي ذكرها مالك بن نبي هي التي عبّر الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي عنها في استراتيجياته العشر التي تؤكد صدق الأهداف التي يسعى الغرب إلى تحقيقها وبتدرج في كل بيت ومدينة ودولة، وجاء في هذه الوثيقة ما يلي:
1ـ استراتيجية الإلهاء والتسلية:
يقول تشومسكي استراتيجية الإلهاء عنصر أساسي لتحقيق الرقابة على المجتمع، عبر تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، مع إغراق النّاس بوابل متواصل من وسائل الترفيه, في مقابل شحّ المعلومات وندرتها وهي استراتيجية ضرورية أيضا لمنع العامة من الوصول إلى المعرفة الأساسية في مجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس وعلم الأعصاب، وعلم التحكم الآلي، حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، اجعلوه مفتونا بمسائل لا أهمية حقيقية لها، أبقوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا، لا وقت لديه للتفكير، وعليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات.
إنّ من نظر في حال أمّتنا يدرك حقيقة هذه الإستراتيجية، ذلك أنّ أمتنا بليت بخلافات فرعية شغلتها عن القضايا المصيرية، كما أنّ منظماتنا الدولية لا يمكنها أن تحرّك ساكنا ما لم يوافق مجلس الأمن الدولي على قراراتها، كما أنّها أمطرت بوابل من وسائل الترفيه الغير هادفة والتي شغلت الشباب - الذين هم وقود المعركة المعرفية القادمة - عن إعداد العدة للنهضة الفكرية، كما أنّ جمهور أمّتنا شُغل بالمجون ومتابعة ملكات الجمال ومتابعة مباريات كرة القدم على طوال العام، كما أنّ وسائل الترفيه على مواقع التواصل الاجتماعي شغلت خيار الناس وخاصتهم فضلا عن العامة والدهماء.
2ـ إستراتيجية افتعال الأزمات و المشاكل وتقديم الحلول:
يسمّى تشومسكي هذا الأسلوب بالمشكلة، والتّفاعل، والحلّ يبدأ بخلق مشكلة, وافتعال وضع مّا الغاية منه انتزاع بعض ردود الفعل من الجمهور، بحيث يندفع الجمهور طالبا لحلٍ يرضيه على سبيل المثال: السّماح بانتشار العنف في المناطق الحضرية، أوتنظيم هجمات دموية، حتى تصبح قوانين الأمن العام مطلوبة حتّى على حساب الحرية، أو خلق أزمة اقتصادية يصبح الخروج منها مشروطا بقبول الحدّ من الحقوق الاجتماعية وتفكيك الخدمات العامّة, ويتمّ تقديم تلك الحلول المبرمجة مسبقا, ومن ثمّة قبولها على أنّها شرط لا بدّ منه.
إنّ افتعال المشاكل والأزمات واختلاق القلاقل والنزاعات - الداخلية والخارجية - الهدف منه هو بقاؤنا متعلقين بالغرب سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، في كل دولة من دول العالم الإسلامي هناك أزمات منها ما هو داخلي’’ السودان والصومال واليمن والعراق ومصر وليبيا وتونس والصحراء الغربية وأفغانستان وباكستان، كل ما يقع في هذه الدول هو نموذج لحروب العصابات، ومنها ما هو خارجي كفلسطين وكشمير وبورما.
إنّ هذه التشكيلة من الشرخ تُشكل الوجه الحقيقي لضعف أمّتنا عن تحقيق أبسط حق من حقوقها المسلوبة التي تباكت عليها علنا وقبضت ثمنها سرا مقابل بقاء من يتولون أمرها في الحكم.
لقد عمل الغرب تحت غطاء الأمم المتحدة في مؤسساته الدولية: البنك الدولي، الاتحاد الدولي لكرة القدم، مجلس الأمن، منظمة حقوق الإنسان، محكمة العدل الدولية، كل هذه المؤسسات التي ظاهرها الخير سعت وبشكل مباشر إلى تخدير أمتنا والضحك عليها.
فالبنك الدولي أغرقنا بالديون والقروض حتى أصبحنا عاجزين عن تسديد فواتيره، والاتحاد الدولي لكرة القدم تحكم هو الآخر في جماهيرنا التي أصبحت تنساق كالقطيع - صباحا ومساء- من أجل مشاهدة مُباريات وبطولات لو استخدمت وقتها في ما ينمّي تنميتها لكان أدعى إلى تقدّمها، ومنظمات حقوق الإنسان بشتى أصنافها: أطباء بلا حدود، صحافة بلا حدود، فالثانية تعمل في إثارة الطابور الخامس العامل في الصحافة، كما أنّ الأولى يعمل ممثلوها ممثلي في تنصير أبناء العالم الإسلامي المعانين من نكبات الفيضانات وويلات الحروب التي أشعلتها منظمات سوق الأسلحة في حلف شمال الأطلسي والحراسات الأمنية الأمريكية، كل هذا مقابل ما تجود به أيديهم؛ بين هذا وذاك يظل المسلم يتقلّب بين مطرقة الصواريخ الفسفورية وسندان المساومين على الدين، أمّا منظمة العدل الدولية فإنّها تُعاملنا معاملة المجانين المتخرجين - حديثا - من المارستان، فأي زعيم تنكّر للغرب أو أساء القول أو رفض الانصياع لهم يقدّمونه للمحاكمة غير آبهين بالشياطين الصهاينة العابثين في فلسطين .
إنّنا نعيش مرحلة حرب الأفكار المدعومة لوجستيا بالبارجات وناقلات الطائرات المحملة بأحدث القنابل الذكية.
3 ـ استراتيجية التدرّج:
يقول تشومسكي لضمان قبول ما لا يمكن قبوله يكفي أن يتمّ تطبيقه تدريجيّا على مدى عشر سنوات، بهذه الطريقة فرضت ظروف اقتصاديّة و اجتماعيّة مثّلت تحوّلا جذريّا كالنيوليبراليّة و ما صاحبها من معدلات البطالة الهائلة و الهشاشة والمرونة، العديد من التغييرات التي كانت ستتسبّب في ثورة إذا ما طبقت بشكل وحشيّ, يتمّ تمريرها تدريجيّا وعلى مراحل.
إنّ النيوليبرالية التي يتكلم عنها نعوم تشومسكي هي فكر آيديولوجي مبني على الليبرالية الاقتصادية التي تسعى إلى تقليص العمالة في القطاع العام وتكريس وجود العمالة في القطاع الخاص ليسهل التخلص منهم في أي وقت دون التزام مسبق بتعويض حق التقاعد أو التأمين الصحي وبهذا يصبح المجتمع عالة على الدولة مما سيسبب بطالة تعجز الدولة عن توفير حاجيات مواطنيها مما سيدفعها إلى طلب المساعدات الدولية أو القروض وبهذا يصبح المجتمع أسيرا في يد الغربيين دون أن يطلق الغرب رصاصة واحدة، ولتحقيق هذا الغرض يسعى الغربيون إلى تحقيق أهدافهم عن طريق مُدد طويلة الأمد، هذا إن كانت الدولة ذات نشاط إيماني بوطنها ومواطنيها أمّا إذا كانت من الدول النامية فلا تحتاج إلى هذا لأنها واقعة مسبقا في الفخ.
4 ـ استراتيجية التأجيل:
هناك طريقة أخرى يراها تشومسكي لتمرير قرار لا يحظى بشعبية وهو تقديمه باعتباره قرارا مؤلما ولكنّه ضروريّ، والسّعي إلى الحصول على موافقة الجمهور لتطبيق هذا القرار في المستقبل، ذلك أنّه من الأسهل دائما قبول القيام بالتضحية في المستقبل عوض التضحية في الحاضر، ولأنّ الجهد المطلوب لتخطّي الأمر لن يكون على الفور، ثم لأنّ الجمهور لا يزال يميل إلى الاعتقاد بسذاجة أنّ "كلّ شيء سيكون أفضل غدا"، و هو ما قد يمكّن من تجنّب التضحية المطلوبة وأخيرا فإنّ الوقت سيسمح ليعتاد الجمهور فكرة التغيير و يقبل الأمر طائعا عندما يحين الوقت.
لقد نجح الغرب في استخدام أسلوب الموت البطيء، ذلك أنّ المجتمعات الإسلامية المتحمّسة لقضاياها المصيرية والمطالبة بإحقاق الحق وإبطال الباطل في قضاياها الشائكة كفلسطين، أصيبت بالخيبة والهزيمة النفسية وعجزت جماهيرها - الثائرة - عن تحقيق حلمها وهو استقلال فلسطين موحدة الأراضي عاصمتها القدس الشريف، في حين نجد الغرب – المماطل - مؤسساته الراعية لحقوق الإنسان عاجزة عن تقرير مصير الفلسطينيين وعاجزة – كذلك- عن محاسبة الصهاينة، والحل الوحيد الذي يلوح في الأفق هو استراتيجية التأجيل.
5 ـ مخاطبة الجمهور على أنّهم قصّر أو أطفال في سنّ ما قبل البلوغ:
يقول تشومسكي مُعظم الإعلانات الموجّهة للجمهور العريض تتوسّل خطابا و حججا وشخصيات، أسلوبا خاصّا يوحي في كثير من الأحيان أنّ المشاهد طفل في سنّ الرضاعة أو أنّه يعاني إعاقة عقلية، كلّما كان الهدف تضليل المشاهد, إلاّ وتمّ اعتماد لغة صبيانية لماذا؟ إذا خاطبت شخصا كما لو كان في سنّ 12 عند ذلك ستوحي إليه أنّه كذلك وهناك احتمال أن تكون إجابته أو ردّ فعله العفوي كشخص في سنّ 12.
نعم، إنّ الوصاية الغربية على شؤون المسلمين توحي بأنّ القوم ليس فيهم رجل رشيد وأنّهم جماعة من القُصّر لم يبلغوا الحلم بعد، ويتجلى هذا في ثقافة الدول الاستعمارية تُجاه مستعمراتها القديمة، فدول الشمال الإفريقي تتحكم فرنسا في قراراتها السيادية وكأنّ تلك الحكومات ما هي إلا ممثل رسمي عن المستعمر الفرنسي، فأي انتخابات مثلا تنظم دون رعاية من مندوبيها تعتبر مزورة، وأي انقلاب عسكري قيم به يعتبر تحديا صارخا لألعوبة الديمقراطية التي تتحكم فيها، كما أنّ الدول التابعة للاستعمار لبريطاني ككينيا مثلا لا يمكن أن يرشح فيها أي رئيس ما لم يكن مرضي عنه ومزكى عند الإدارة لبريطانية، وهكذا في باقي الدول الإسلامية.
إنّ مفهوم الوصاية ومخاطبة الجماهير بمنطقها ما هو إلا منطق من الأفكار المميتة والسبب في هذا أنّ الغربيين غير واثقين ممن سيحكم الجماهير وعلى هذا الأساس فإنّ إعطاء مزيد من الحرية للجماهير ينافي الوصاية التي طرحها ماركس ونادى بأنّ الحكم يجب أن يبقى عند الخاصة وهو بهذا يطبق النهج السائد في أوروبا أيام سلطان الكنيسة، والغربيون من هذا الجانب إلحاديون ماديون يستخدمون أسلوب الكنيسة وهو الوصاية على الآخرين بحجة الحق الإلهي، كما أنّ الأمم المتحدّة التي تحتكر السيادة العالمية ما هي في حقيقة أمرها إلا أكبر منظمة لتشريع الظلم والاستعمار، ذلك أنّ الشعوب المقهورة لم تُستشر ولم يؤخذ رأيها أيام إنشاء المنظمة، والذين أنشئوها هم من صاغ قراراتها ليكون لهم الحق في استعمار من شاءوا دون تذمر ولا امتعاض من أحد.
إنّ شعوبنا الإسلامية مستلبة من حقها الطبيعي وهو اتخاذ قراراتها دون وصاية ويجب أن تتولى زمام أمرها دون أبسط ضغط خارجي وإلا لا يكون لمفهوم الاستقلال معنى.
6 ـ مخاطبة العاطفة بدل العقل:
يقول تشومسكي التوجّه إلى العواطف هو الأسلوب الكلاسيكي لتجاوز التحليل العقلاني، وبالتالي قتل ملكة النقد، وبالإضافة إلى أنّ استخدام السجل العاطفي يفتح الباب أمام اللاوعي ويعطّل ملكة التفكير، ويثير الرّغبات أو المخاوف والانفعالات.
إنّ عدم تقبل ثقافة النقد والتركيز على جانب المدح والإطراء ومخاطبة الجماهير بلغة العاطفة أسلوب اتخذته غالبية الساسة الغربيين تجاه مواطنيهم (هتلر نموذجا ) ولهذا يقول وزير إعلامه (غوبلز) إنّ سر الدعاية الفعالة يكمن لا في إذاعة بيانات تتناول آلاف الأشياء، ولكن في التركيز على بضع حقائق فقط ، وتوجيه آذان الناس وأبصارهم إليها مرارًا وتكرارا.
لقد عانت المجتمعات العربية والمسلمة وهي في عقر دارها من خطباء عاطفيين، يتباكون في كل أمسية ويرقصون على أوتار العاطفة من أجل أن يتناسى الجمهور قضاياه المزرية في شتى المجالات، كل هذا من أجل أن يبقى الجميع نائما على أنغام الماضي وأحلام المستقبل دون أن يحرك ساكنا.
7 ـ إغراق الجمهور في الجهل والغباء:
يقول تشومسكي لا بدّ من إبقاء الجمهور غير قادر على فهم التقنيات والأساليب المستعملة من أجل السيطرة عليه واستعباده، يجب أن تكون نوعية التعليم الذي يتوفّر للمستويات التعليميّة الدنيا سطحيّا بحيث تحافظ على الفجوة التي تفصل بين النخبة و العامّة و أن تبقى أسباب الفجوة مجهولة لدى المستويات الدنيا.
إنّ ثقافة تغييب العقل واستثمار قدراته تشكل للمجتمعات الإسلامية ظاهرة ما زال العقل الاسلامي عاجزا عن فهمها فضلا عن تقديم حلول لها، وهذه الظاهرة هي الفوارق الفردية في مجال التعليم، والسبب المعلن عند المختصين في مجال علم نفس التربوي هو اختلاف الناس في الذكاء وسعة الحافظة، وهذا القول وإن كان له وجه من الحقيقة إلا أنّنا نلاحظ المجتمعات ذات الطابع البدوي أبناؤها أكثر ذكاء من أبناء القاطنين في الحضر، كما أنّ تنوع قدرات أبناء الطبقة الغنية والمتوسطة تشكل حاجزا نفسيا قويا على أبناء الطبقة الكادحة والمسحوقة، وحين نقارن أبناء الغربيين بغيرهم نجد أنّ الغربيين وفرت لهم أسباب الفهم والإدراك وأبناء العالم الإسلامي بسبب الفقر والجوع والكوارث وضعف الكادر التعليمي بقوا عاجزين عن مسايرة الواقع، ثم إن المادة العلمية المقدمة للطالب في عالمنا الإسلامي لا ترقى إلى مستوى أبناء الغربيين، والسبب هو اعتقاد أفضلية أبناء الرجل الأبيض والقول بأنّ المسألة ترجع إلى ذكائه، والحقيقة أن الغرض هو منع وجود من يفكرون تفكيرا جيدا في العالم الإسلامي، وهذه الفجوة تشكل حاجزا نفسيا قويا في أبناء العالم الإسلامي جعلهم حتى وإن كانوا في المراكز العلمية الغربية يشعرون بنفس الشعور.
8 ـ تشجيع الجمهور على استحسان الرداءة: يرى نعوم تشومسكي أنّ تشجيع العامّة على أن تنظر بعين الرضا إلى كونها غبيّة و مبتذلة و غير متعلّمة سبب من أسباب السيطرة عليها وبقوة.
إنّ ظاهرة الإحباط والانطواء ثقافة حاول الغربيون زراعتها في بلادنا، وقد تجسدت هذه الثقافة في ظاهرة النكسة التي وقعت للعرب سنة 1967م بعد الحرب مع إسرائيل والتي سببت لنا هزيمة نفسية جعلت الجماهير العريضة من مجتمعاتنا لا تفكّر في غير ذاتها، كما أنّ ثقافة الإحباط والانزواء جعلت جماهير المسلمين من الأفارقة يقفون موقفا خاصا من قضية فلسطين بسبب عنجهية جمال عبد الناصر وقوميته للعرب والتي كانت سببا رئيسا في النكسة عام 1967م بعد أن وقف قائلا فلسطين عربية وستبقى عربية مُشيرا إلى أنّ الجهود المبذولة من قبل غير العرب غير مقبولة وأن لا حاجة فيها، وبهذا استطاع الغرب أن يشق عصا المسلمين ويقسم همومهم إلى هموم عربية لا دخل للعجم فيها وهموم عجمية لا دخل للعرب فيها، كل هذا زرع ثقافة الإحباط واليأس من شيء اسمه أمة إسلامية موحدة.
9 ـ تحويل مشاعر التمرّد إلى إحساس بالذّنب:
يحدّد نعوم تشومسكي ظاهرة الإحساس بالذنب بأنّها هي دفع كلّ فرد في المجتمع إلى الاعتقاد بأنّه هو المسئول الوحيد عن تعاسته، وذلك بسبب عدم محدوديّة ذكائه و ضعف قدرته أو جهوده، وهكذا، بدلا من أن يثور على النظام الاقتصادي يحطّ الفرد من ذاته و يغرق نفسه في الشّعور بالذنب ، ممّا يخلق لديه حالة اكتئاب تؤثر سلبا على النشاط ، و دون نشاط أو فاعليّة لا تتحققّ الثورة.
إنّ اهتمامنا بالجزئيات وحرصنا على اللوم واللوم المضاد شكّل نوعا يريح المؤسسات والشركات الغربية العاملة في بلادنا، بحكم أننّا نحن هم السبب الأول وراء كل أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وبهذا يجد الغرب مخرجا دون أن تكون أصابع الاتهام ممدودة إليهم أو إلى شريكهم المباشر، كما أنّ الحصانة القانونية التي تجعلهم بريئين من أي فساد مالي أو أخلاقي شكلت للغربيين منعطفا يلجئون إليه عند كل ضائقة، وبهذا يشعر الجميع بالذنب وبدل محاسبة الشريكات الأجنبية العاملة يتحول الذنب إلى الأفراد البسطاء.
10ـ معرفة الأفراد أكثر من معرفتهم لذواتهم:
يقول نعوم تشومسكي على مدى السنوات ال 50 الماضية ، نتج عن التقدّم السّريع في العلوم اتّساع للفجوة بين معارف العامة وتلك التي تملكها و تستخدمها النّخب الحاكمة، فمع علم الأعصاب وعلم الأحياء وعلم النفس التطبيقي وصل "النظام العالمي" إلى معرفة متقدّمة للإنسان، سواء عضويّا أو نفسيا. لقد تمكّن "النظام" من معرفة الأفراد أكثر من معرفتهم لذواتهم وهذا يعني أنه في معظم الحالات ، يسيطر "النظام" على الأشخاص ويتحكّم فيهم أكثر من سيطرتهم على أنفسهم.
إنّ هذا المفهوم الذي يقرره نعوم تشومسكي يتجسد في الدول التي تُعامل مواطنيها كأجانب مُستخدمة لغة الكر والفر وراء كل من سعى بنفسه إلى تجاوز حاجز الهزيمة النفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي بهذا تمثل نفس الدول الذي تقوم به الدول الغربية التي تتربع على العرش الهرمي لدول العالم الثالث.
كما أنّ سبب هذه الفجوة التي نعيشها هو معرفة الأنظمة الحاكمة عندنا لآليات الهزيمة والخداع والمكر، وبهذا أصبحت محيطة ومدركة كل الإدراك بعد جس نبض الجماهير بكيفية إسكاته وإقناعه عاطفيا دون أن يحدث أي احتكاك.
إنّ ظاهرة الاستلاب الثقافي لا يمكننا أن نحمّلها للغرب وحده، ذلك أنّنا نحن هم من رضي للغرب بالاستعلاء على ظهورنا، وحين نحاكم أنفسنا بأنفسنا نُدرك أنّنا انسلخنا من قيمنا الدينية وبقينا نتقلب ونتخبط في اللاشيء، ونترجى من الغرب حصول كل شيء؛ ( الدواء وحجرة الكبريت ) غير ساعين إلى الاستقلال عنه، وحتى إن استقلّ البعض منا يبقى البعض الآخر يلوح بيده لا أريد غير الاستغلال،،، يكفيني أنّك أنت أيها الغربي قدوتي في كل شيء وسيدي في كل شيء وأنا عبدك ومولاك في كل شيء.
المهدي ولد أحمد طالب/ كاتب وباحث في الفكر الاسلامي [email protected]