لم نستقلّ بعدُ يا سادتي / المهدي ولد أحمد طالب

لقد تعلّمنا ونحن في مرحلة اللاوعي بأنّ موريتانيا استقلت عن فرنسا في يوم 28/11/1960م وحين كبر الطفل الذي بداخلنا تبين لنا أنّ الذي تعلمناه كان مُجرد اتفاق بين فرنسا ومندوبيها في موريتانيا.

لم نستقلّ بعدُ يا سادتي عن فرنسا وكذب من زعم ذلك!

الاستقلال لا يعني أن يذهب المستعمر بآلياته العسكرية وكامل مُعداته، لا يعني بيانا أمميا بالانضمام إلى الأمم المتحدة أو جامعة الدول العربية أو الاتحاد الإفريقي، لا يعني سفارات أجنبية وقناصل وممثلين دبلوماسيين، الاستقلال لا يعني هذا ولا ذاك.

الاستقلال يعني المحتوى البياني للكلمة والمعنى الجمالي لمضمونها، يعني شعبا يؤمن بقيمه الروحية ويتكافأ في مُقدّراته الاقتصادية، يعني شعبا يحكم ذاته بذاته لا يحكم من وراء المحيطات والبحار، يعني شعبا يتحكّم في أرضه وسمائه، يتحكّم في سمكه وحديده، يتحكّم في ذهبه ونفطه.

الاستقلال يعني الاستغناء عن المستعمرين في كل مقومات الحياة، يعني الاستغناء عنهم في القرار السياسي، يعني السيادة فوق الحوزة الترابية والسيطرة على كامل حدوده.

الاستقلال لا يعني العزف الموسيقي صبيحة الثامن والعشرين من نوفمبر من كل سنة وتعليق النياشين على قادة الجيش وترقية هذا أو توشيح ذاك، الاستقلال لا يعني تلقي التهاني من أصحاب الطابور الخامس، أوالتبريكات من أصحاب الصحافة الصفراء، أو المدح والإطراء من ماسحي أحية السياسيين، أو التبجيل والثناء من أصحاب العمائم البيضاء، الاستقلال لا يعني هذا ولا ذاك .

الاستقلال شعور بالمسؤولية وإيمان بأنّ المهمة تكليف لا تشريف، إيمان بأنّ التاريخ يُسجل أحداثه لحظة وقوعها وأنّه في كل يوم يعلم أبناءه درسا من دروس الشهامة والإباء، درسا من دروس الاستقلال والإيمان بالذات.

الاستقلال بمفهومه العام يرتكز على الاستقلال عن الآخرين في اللغة والهوية والدين ومن لم يستقلّ عنهم في هذا يبقى عبدا يجر رقّ العبودية في رجليه وإن جلس في القصور الخضراء وغنّت له الحمائم وذوات الجيد الحسان.

إنّ استقلالنا عن فرنسا بالمعنى المجازي كان منة منها، ذلك أنّها تصالحت مع مندوبيها بعد أن عجزت عن إيجاد صلح مع زعماء الإمارات القبلية في غرب ووسط وشمال وشرقي موريتانيا الذين رفضوا التعامل معها رافعين فوهات مدافعهم في وجهها وحينها لم يكن هناك بدٌ من إيجاد بديل من أصحاب الطابور الخامس يتعامل معها وهو ما حصل بالفعل.

لا يمكننا ألبتة تجاوز ما قدّم المقاومون الأبطال من أبناء الزعامات القبلية الذين سقطوا في ساحة الشرف من أجل أن يعيش أبناؤهم ومن في حكمهم بشرف وعزة، ومن غير المقبول أن نولي ظهر المجن لهذه التضحيات الجسام التي بدأت من سنة 1903م وانتهت سنة 1934م ، ومن غير المقبول – كذلك – أن يذهب ما قدّموه سدا تحت يافطة الدولة الحديثة وضرورة قبول أمر الواقع دون مُراعاة دورهم الريادي في صناعة الشهامة والفداء.

لقد صنع المقاومون الأبطال المعارك ضد المستعمر الفرنسي واستغل بعض الزوايا الحدث بتعاملهم خُيفة مع المستعمر من أجل تنصيب أبنائهم وأحفادهم في دولة تواروا عن شرارتها الأولى خوفا من شظاياها ولهيبها.

نعم، ركب البعض منهم موجة الجفاف التي كانت سببا في توقف المعارك ضد المستعمر الفرنسي سنة 1934م، وبدؤوا في تغيير مسار المقاومة العسكرية والثورة إلى لغة التطبيع والتعاون وبهذا وجدت فرنسا ضالتها بعد عجزها عن تحقيق أهدافها الثقافية في تقبل الساكنة للغتها والتعاون معها.

لقد وجدت غايتها ومُبتغاها في الذين استمالتهم وأغرتهم بعد أن تعلموا لغتها وأعجبوا بثقافتها، لقد كانوا عونا لرجل السياسة الفرنسية شارديغول، الذي اقترح استفتاءه المعروف باستفتاء ( الديكولي ) سنة 1958م والذي تمّ بموجبه إعلان الاستقلال – الصوري - عن فرنسا سنة 1960م .

إنّ المقاومة الموريتانية لفرنسا بشكلها الحقيقي توقفت سنة 1934م بسبب استشهاد قادة المعارك وضعف عتاد من بقي منهم وصعوبة صبرهم على الجفاف الذي حاصرهم من جهة أخرى، والقول بأنّ فرنسا ذهبت مُكرهة يجانبه الصواب، ذلك بأنّها هي من رتب البيت الموريتاني الأول، وأعدّت نموذجا فوتوكرافيا لدولة ما زلنا نعيش في مُخططاتها.

إنّ من نظر نظرة تأمل يدرك أنّ فرنسا كانت ولا زالت هي الراعي الأول والداعم لكل القرارات السيادية المتعلقة بموريتانيا على اعتبار أنّها مُجرد محمية من محمياتها في غرب إفريقيا، ويتجلى هذا من عهد المختار ولد داداه إلى يوم الناس هذا، في مختلف المجالات الحيوية.

لقد كانت وراء كل الانقلابات العسكرية والنزاعات العرقية، لقد سعت منذ عهد مستشارها كبولاني في إيجاد جيل ممسوخ لا يعرف غير اللغة الفرنسية، من أجل بقائه مُغرما بثقافتها على اعتبار أنّ اللغة هي العامل الحقيقي في استغلال الشعوب والسيطرة عليهم.

الاستقلال ليس بأناشيد ترنم ولا أنغام ترتل، الاستقلال هو الاعتزاز بالموروث الثقافي والديني والحضاري، هو البناء ومزاحمة الأمم ومسايرة ركب الحضارة المعاصرة في مجالات التطور التكنولوجي، هو بناء الذات بناء معرفيا والاعتماد عليها لا على الآخرين.

جميل أن يشعر المرءُ بوجوده في أرض يملك سماءها وأرضها، يملك هواءها ونسيمها، لا يحتاج إلى الآخرين في حبة قرص يتعالج بها، أو كسرة خبز يسد رمقه بها، والأجمل ثم الأجمل أن يتحكم في قضائه ونظامه السياسي.

جميل كذلك أن يشعر مواطنوه أنهم جزء من وطنهم وهو جزء منهم، يشعر مُواطنوه أنّهم لا يحتاجون إلى مستشفى خارجي يستشفون داخله أو جامعة أجنبية يتعلم فيها أبناؤهم، يشعر مواطنوه أنّهم ليسوا بحاجة إلى التكفف واستجداء الآخرين، ليسوا بحاجة إلى الهجرة نحول المجهول في أعماق المحيطات، ليسوا بحاجة إلى التنقل بين فيافي الصحراء وأدغال إفريقيا.

إنّ اللامبالاة بشعور آلاف المواطنين وتناسي أحزانهم ومشاكلهم وحصر الدولة في ثلة من الأولين الذين جاءت بهم فرنسا من أجل تمثيلها دبلوماسيا وسياسيا يشعر المواطن البسيط بأنّ الذي حصل سنة 1960م كان مُجرد زواج سري تجدّد أوراقه بعد كل طلاق يحدث مع كل انقلاب.

المهدي ولد أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي

27. نوفمبر 2013 - 13:56

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا