أقدم الاستعمار الفرنسي في إطار سعيه الدءوب من أجل السيطرة على هذه البلاد، نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، إلى إقامة مواطئ قدم له عبر مناطق وطننا، استخدمت فيما بعد كجسور للإمداد والتحكم،
ولجمع المعلومات، جنوبا ووسطا وشمالا وشرقا، وذلك في نطاق إستراتيجيته لبناء جسور الغزو الوشيك القادم ، لتكانت وآدرار، وهما القلعتان العصيتان، ومن أجل تلك الغاية انشأ الفرنسيون وبناء على رغبة رئيس الحملة المبيتة مراكز ومن قبل مراكز ورغم أن قائد وعراب حملة الغزو الاستعمارية المبيتة، المتعرب، الكورسيكي، أكزافي كبولاني ،كاد أن يفقد حياته في وقت من الأوقات، وبالكاد استطاع الهروب والنجاة بجلده، وهو عري من ثوبه 1902 م أثناء هجوم لمجاهدي المقاومة استهدف قوات حملته العسكرية المتجمعة بالاك، والتي كان كبولاني على رأسها.
وكان هجوم المقاومة ليلة ئذ بقيادة عثمان ولد أسويد أحمد بمعية الأمير أحمدو ،إذ أن القائد الاستعماري كان قد أبرم أمره يومئذ وأعد العدة بألاك لغزو تكانت في المرحلة الأولى، انطلاقا من لبراكنة ،وهو ما لم يتم في ذلك الوقت، نتيجة للتصدي المبكر الذي أبدته المقاومة المسلحة بقيادة الأميرين، لكن منذئذ ظل الهاجس الكبير لفرنسا الاستعمارية "والميتروبول" هو وضع اليد وبقوة السلاح إن لزم الأمر على جبهتي المقاومة العصيتين، تكانت وآدرار ولذلك سيعمل كبولاني ومن تلوه كما سنرى على استمالة قوى عديدة، وبأماكن مختلفة وهامة، بكل المواقع التي استطاعوا الوصول إليها، وهكذا سيعيد كبلاني الكرة مرة أخرى، مستأنفا الحملة هذه المرة من بوتلميت يناير 1905 م وقد حقق في هذه الحملة من التقدم ما فاق توقعاته على ما يبدو حيث استولى على مدينة تجكجة حاضرة تكانت من بين مواقع أخرى.
وفي خضم العملية العسكرية الاستعمارية الشرسة تلك، استشهد الأمير الكبير بكار ولد اسويد أحمد متأبطا بندقيته إثر معركة "بوكادوم" بلعصابة ابريل 1905 م، إلا أن أكزافي كبولاني لم يعمر نصره طويلا، إذ أنه وبعد أسابيع قليلة عاجله حتفه بتكانت على يد البطل سيدي اسغير ولد مولاي الزين وصحبه البررة ليلة 12 مايو من نفس السنة، وإن استطاعت الدولة الاستعمارية العظمى الاحتفاظ بالموقع تجكجة المدينة، لكنها ظلت محاصرة فيه، لا تغادره بفعل عمليات المقاومة المستمرة دون كلل أو ملل،مقاومة من تكانت ذاتها ثم من آدرار بقيادة الأميرين المجاهدين عثمان ولد بكار وسيد أحمد ولد أحمد العيده معا، وكل من موقعه.
ولقد تلقى الاستعمار الفرنسي ضربة موجعة حقا بموت كبولاني قائد حملة الاحتلال ، مما دفع جمعية منتخبي مستعمرة السينغال في ذلك الوقت في اجتماع صاخب مع والي "سينلوي"، نعي الأخير فيه المفوض الهالك، مفوض المستعمرة الجديدة موريتانيا إلى الدعوة وبإلحاح للانسحاب الفوري من هذه البلاد "موريتانيا " المسمى الذي اختاره كبولاني وسما لمشروع المستعمرة قيد الإنشاء، وهو الاسم الذي ستحتفظ به بلادنا ثم تعرف به لاحقا ،بعد أن صار علما عليها دون غيرها، وليحل محل مسميات عرفت بها من قبل لعل أبرزها بلاد شنقيط.. .
ولقد طالت حيرة الفرنسيين لفترة، ترددت فيها المراسلات بين الحكومة الاستعمارية الفرنسية وولاة مستعمراتها في المنطقة عقب موت المفوض كبولاني، حول موضوع الانسحاب من عدمه من المستعمرة الجديدة،وهو ما أصبح خيارا مطروحا على الطاولة، إلى أن استطاع وزير المستعمرات الفرنسية في ذلك الوقت ،وبعد لأي إقناع حكومته بضرورة البقاء هنالك، رغم الثمن الباهظ الذي قدموه، ورغم حالة الحصار الذي صاروا فيه، وهجمات المقاومة التي لا تتوقف ،فبادروا عندئذ إلى إقامة موطئ قدم جديد لهم باكجوجت للمرة الأولى 1908 م، لكنهم سرعان ما غادروا مكرهين تحت ضربات المقاومة المسلحة ضف إلى ذلك أن الفرنسيين تلقوا ضربة مميتة "بلكويشيشى" في تلك السنة بالتحديد 28 نفمبر 1908 م على يد الأمير المظفر أحمد ولد الديد ،مات فيها من جانب الفرنسيين الملازم أول "ريبول " و لقي 102 جندي من فرسانه مصرعهم ، وبذلك قضي قضاء مبرما على تلك القوة الفرنسية.
وظل أمر المضي قدما في إكمال المخطط الاستعماري ببلادنا متأرجحا بين الإقدام الخجول والإحجام إلى بدايات سنة 1909 م من القرن المنصرم، ففي ذلك الوقت قررت الإمبراطورية الاستعمارية الاستيلاء على آدرار ومهما كلف الثمن، من خلال حملة عسكرية جديدة بقيادة العقيد "غورو" ،ورغم أن الجنرال "غورو" تمكن من الوصول إلى أطار إلا أن المقاومة لم تستسلم، ورغم أن الأمير سيد أحمد ولد أحمد العيده تعرض للأسر فيما بعد بتشيت 1911 م، وهي السنة نفسها التي ستخسر فيها المقاومة المسلحة ومجاهديها الأشاوس أحد أبرز رعاة الجهاد بهذه البلاد ضد الاستعمار وبالمنطقة عموما، الشيخ ماء العينين، فإن المقاومة استمرت وإلى حين ، رغم حجم الخسارة الكبير المتمثل في رحيل الشيخ وأسر الأمير، وإن راوحت مكانها،و في ظروف أحكمت فيها الإمبراطورية الاستعمارية السيطرة الكاملة على شبه المنطقة والإقليم، عرفت العلاقة ما بين الأمير المجاهد والسلطة الاستعمارية فترة سكون، في إطار الهدنة المعلنة، وقد تخلص الأمير أثناء ذلك من الأسر.
وإن ظلت الثقة مفقودة بين الطرفين فيما يبدو، إذ لم تغادر الأمير لحظة نية جهاد الغزاة وحتى النهاية، وفي نجعة للحلة و الأمير باتجاه "مقطير " شمال موريتانيا، نجح الأمير سيد أحمد ،وفي مناورة ذكية منه، في استدراج القوة الفرنسية المكلفة بمراقبته بقيادة أحد ضباط السلطة الاستعمارية ،فقتل الضابط الفرنسي قائد القوة، وعددا من جنوده الأغراب مستعينا في ذلك، بولد المشظوفي الذي كان عونا فرنسيا برتبة رقيب أول، بعد أن قلب ظهر المجن للفرنسيين، ورغبة منه في الجهاد، و انتصارا للمقاومة الوطنية، وقائدها بآدرار ،وبعد أن تسني للأمير وأهل بيته ورفاقه، حرية التحرك ،مستفيدا من غنيمته من سلاح الوحدة الاستعمارية المعادية الآنفة الذكر، بادر بالتوجه شمالا، بخطى حثيثة، في هجرة، ختم بها جهاده، ونال فيها الاستشهاد "بوديان الخروب "وبمعية كوكبة من خيرة رفاق جهاده، كان من بينهم "ولد لكرع " ،وهي السنة ذاتها التي سيشهد صيفها إحدى آخر وأعظم معارك المقاومة، "بأم التونسي " جنوبا بتخوم "تفل"، كانت خسارة الفرنسيين فيها مضاعفة وموجعة، إذ أنهم هزموا شر هزيمة، ومات من الضباط الفرنسيين وضباط الصف ستة، فضلا عن خسارة العديد من "الرماة" الأفارقة والأعوان المحليين وكان على رأس قتلاهم "ألويس دي ماكماهون" مقمق " كما يدعى محليا .
معركة ما زال اليوم أحد أبطالها الأفذاذ حيا، وهو شاهد العيان الوحيد، الذي ما يزال على قيد الحياة، وكان ممن كرموا على يد رئيس الجمهورية السيد :محمد ولد عبد العزيز سنة 2009، وقد أحسن بذلك صنعا ،وكان المجاهد أحمد ولد بوهده، وهو من نعني هنا، ممن أصيبوا بجراح بليغة أثناء تلك المعركة المشهودة، وأكد المجاهد ولد بوهده، المقيم الآن على بعد 20 كلم غرب مدينة اكجوجت ،تدخل الطيران الحربي الفرنسي بعيد المعركة.
إذ أن المجاهدين تعرضوا أثناء انسحابهم، وهم في طريق العودة إلى قواعدهم في الشمال، لملاحقة هذا الطيران، وقصفه، بمحيط بنشاب، وبتجريت، قصف جوي راح ضحيته سبعة من فصيلة الجمال، وإن لم يلحق بالمجاهدين أذى، سوى أنه في منطقة تجريت، توفي قائد مجاهدي أم التونسي، سيدي ولد الشيخ ولد لعروصى ،مسلما الروح إلى بارئها، متأثرا بجراحاته الإثني عشرة، أثناء المعركة ،أغسطس 1932م ،وتعتبر معركة أم التونسي من آخر معارك المقاومة الكبرى مع الاستعمار الفرنسي، ومن أشدها وقعا عليه ،وهي التي جاءت في سياق الثأر لاستشهاد الأمير سيد أحمد بوديان الخروب ،كما كانت معركة تجكجة، التي كللت بموت كبولاني 1905م ثأرا هي الأخرى لاستشهاد الأمير بكار في ابريل من نفس العام .
أيام موحية من أيام الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي، نسوقها عشية ذكرى غالية، نحتفل فيها بالاستقلال الوطني، ونيل الحرية، التي ضحى شهداؤنا من أجلها بالغالي والنفيس، ذكرى الاستقلال 28 نفمبر 1960 م ،ذكرى نرفع فيها تحية إجلال للشهداء الأكرمين،و للمجاهدين الميامين .