العربية لغة شبّت وترعرعت في أحضان الجزيرة العربية، ولم يزل العرب يتلقونها ويتناقلونها بين المديح والهجاء والوصف والرثاء حتى جاء القرآن الكريم، ليحتوي أسمى معانيها ويخرجها من إطاريها الجغرافي الضيق إلى سعة الدنيا ورحابة الإسلام.
إنّنا حين نتحدّث عن اللغة العربية لا يعني هذا تعصبا منا للغة قوم أو جنسهم بعينهم ضدّ آخرين، لا يعني هذا أنّنا نسعى إلى محو كل اللغات من على وجه الأرض أواختزال كل شيء فيها، نتحدث عنها لإعطائها شيئا من حقها المهدور والمنزوع عنوة بحجج أوهى من بيت العنكبوت، نتحدّث عنها كلغة ظلت صامدة في وجه العدوان الثقافي ومحاولات الاستلاب الفكري والقضاء على جذوة نارها التي ظلت تشتعل وتتقد منذ أمد بعيد.
العربية لغة التاريخ والجغرافيا، نعم هي التاريخ بعينه لأنّها اكتست قدسيتها الحضارية ووجدت نضارتها يوم أسبل القرآن الكريم أثوابه عليها وتكلّم بها سيد ولد آدم محمد عليه الصلاة والسلام مُبينا ومُوضحا ما نزّل إلى الناس، ونالت الحفظ والتمكين من ما تضمّنه لسانها المبين، وهي الجغرافيا لأنّها اقترنت بالإسلام وسارت معه مُشرّقة ومُغرّبة حاملة أثوابا من البديع والاعجاز البياني والأهازيج والمرصعات، حاملة الدلائل والاشتقاقات والتصاريف، حاملة المفرد والمثنى والمذكر والمؤنث، حاملة معها الوساوس والخلجات التي يعبر عنها الشعراء والأدباء في قصائد شعرية وقصاصات نثرية امتلأ بها الأغاني للأصبهاني والعقد الفريد لابن عبد ربه ونفح الطيب للمقري، امتلأ بها الأمالي للقالي وبهجة المجالس لابن عبد البر ونضح بها فكر الجاحظ وابن قتيبة.
لم تنل العربية جمالها من مادتها الفنية والهيكلية بقدر ما نالته من الاعجاز اللفظي والبياني والبلاغي الذي احتواه القرآن الكريم والذي جاء تحدّيا لقوم أوتوا سحرافي البيان وشقشقة في التعبير.
نعم، جاء التحدي في أن يأتوا بسورة أو آيته تشابهه في النسق أوالتركيب، قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
من جهة أخرى نجد أنّ الثراء المعرفي والحضاري الذي حظيت به اللغة العربية كان نتيجة حتمية، ذلك أنّ العقل البشري الباحث في حقائق التنزيل والكون، ظل جاهدا في النشوء الفكري والتطور المعرفي من أجل الوصول إلى معرفة الوحي والاحاطة به وهيهات له ذلك، فهو لن يصل إلى مرتبة الوحي الإلهي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد، وهذا ما جعل التفكير في المادة اللغوية كأداة معرفة يتطور شيئا فشيئا في أذهان المسلمين دون لغوب أو نصب.
العربية من هذا الجانب جعلت الكل يجد ضالته ومبتغاه في السند القرآني الذي أعطاها دفعا قويا إلى الأمام، يجد هوايته ورياضته الفكرية والثقافية التي تروّض عليها فكره وعقله، فللمفسر أن يغوص في أعماق التفسير القرآني ويستخرج الأصداف التي يحور منها أولوا الألباب، ومن هذا المنطلق انقسمت مدارس التفسير بين الإشاري،والموضوعي، والبلاغي والتحليلي، والفقهي، والإعرابي.
لقد نالت العربية حظها ومكانتها في قلوب المسلمين من خلال حظها العيني الذي يتعين على كل مسلم ينطق بالشهادتين، والذي يحتّم عليه معرفة معاني أركان الشهادة والنطق بالفاتحة نطقا لا يخلُّ بمعانيها السامية،كما أنّ الأذان للصلاة لا يكون إلا بها، والتلبية للحج من الأدعية الموقوفة باللفظ العربي، والقرآن لا يمكن ترتيله بغيرها، وألفاظ الصلاة كلها محصورة فيها، بل إنّ كل الألفاظ التعبدية موقوفة عليها ولا يجزئ عنها غيرها إلا لضرورة قاهرة وفي هذا المنحى ذكر الماوردي في الحاوي عن الشافعي أنّه قال:
على كل مسلم أن يتعلّم من لسان العرب ما بلغه جهده في أداء فرضه كما عليه أن يتعلم الصلاة والأذكار، وذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال تعلموا العربية، وحسن العبارة، وتفقهوا في الدين، وقال الثعالبي في فقه اللغة:
من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ومن أحبَّ الرسول العربي أحبَّ العرب ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ومن أحبَّ العربية عُنيَ بها وثابر عليها وصرف همَّته إليها ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل والإسلام خير الملل والعرب خير الأمم والعربية خير اللغات والألسنة.
إنّ تعلّم الفروض العينية من الشريعة واجب على كل مسلم وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وحفظ الشريعة عموما يجب على أفراد الأمة الذين يبلّغونها إلى الناس كافة، وإذا تخلوا عن هذا المقصد الشرعي وتكاسلوا يأثموا جميعا، ولن يتأتى لهم هذا الحفظ دون لاهتمام بلغة العرب وآدابها الذين نزل القرآن الكريم بلغتهم.
إنّ هذا الشرع كذلك مهما تبحر أحد في غير اللغة التي أنزل بها سيبقى جاهلا لكثير من أسرار التشريع الإلهي ودقائق الاستنباط التي لم ولن تحصل لمن لم يهتم بكيان اللغة العربية وهيكلها من صرف ونحو وبلاغة وبيان.
ثم إنّ تعلّم أي لغة سيؤثّر في الناشئة والمتلقي تأثيرا قويا ومباشرا، مما ينعكس بالسلب أو الإيجاب عليه وسيتجلى هذا في الأخلاق والسلوك، ويفسر عبد الرحمن بن خلدون في تاريخه هذه الظاهرة من الناحية الاجتماعية بقوله: المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، ويفسرها ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم من الناحية الشرعية بقوله:
إنّ اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق، وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقال أيضا في نفس الكتاب إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر أن يُدعى الله أو يذكر بغير العربية.
إنّ التحدّث بغير العربية لغير ضرورة من العربي المسلم أو المستعرب كرهه السلف وذموه، أمّا من كان ذلك لسانه الأصلي فلا حرج فيه، لكنه مطالب شرعا بتعلُّم ما يصلح الضروري من دينه، ولهذا قال ابن تيمية في الفتاوى:
وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه، مع أنّ سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها؛ ولكن سوغوها للحاجة وكرهوها لغير الحاجة ولحفظ شعائر الإسلام؛ فإن الله أنزل كتابه باللسان العربي وبعث به نبيه العربي وجعل الأمة العربية خير الأمم فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام،،،، والذين يبدّلون اللسان العربي ويفسدونه لهم من هذا الذم والعقاب بقدر ما يفتحونه؛ فإنّ صلاح العقل واللسان مما يؤمر به الإنسان ويعين ذلك على تمام الإيمان وضد ذلك يوجب الشقاق والضلال والخسران.
ثمّ إنّه لاحظّ في الإسلام لمن لا يعرف العربية وحظّه منه بقدر حظه من معرفتها، ولهذا قال الشاطبي في الموافقات:
الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة، وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ولا كان قوله فيها مقبولا، فلا بدّ من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني.
ولنعلم كذلك أنّ تعلُّم غير المسلمين من أهل الذمة لكلام العرب من غير ضرورة للمسلمين منعه كثير من العلماء مقتدين بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولهذا قال ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة:
منع عمر بن الخطاب أهل الذمة من التكلم بكلام العرب لئلا يتشبهوا بهم في كلامهم كما منعوا من التشبه بهم في زيهم ولباسهم ومراكبهم وهيئات شعورهم، فألزمهم التكلم بلسانهم ليعرفوا حين التكلم أنهم كفار، فيكون هذا من كمال التميز مع ما في ذلك من تعظيم كلام العرب ولغتهم، حيث لم يسلّط عليها الأنجاس والأخابث يتبذلونها ويتكلمون بها، كيف وقد أنزل الله بها أشرف كتبه ومدحه بلسان عربي؟
إنّ علماء الإسلام تكلموا عن مكانة اللغة العربية وحافظوا على هيبتها حفاظا على هيبة الإسلام في النفوس وعدم إهانتها خوفا من إهانة الإسلام أو ضعف هيبته في النفوس، ولهذا قال أبو محمد بن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام:
إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهمبغيرهم فإنما يقيّد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقلضرورة، ويعبّر عنه مصطفى صادق الرافعي في كتابه وحي القلم:
وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار؛ ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد:
أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا؛ وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا؛ وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تبع.
المهدي ولد أحمد طالب
يتواصل الحديث عن هذا الموضوع