إنّ الدفاع عن اللغة العربية هو دفاع عن الاسلام الذي احتضنها أيامه الأولى، ولو كانت هناك لغة غيرها أشرف منها منزلة وأفصح منها بيانا لنطق بها القرآن الكريم، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين.
تشهد اللغة العربية في تاريخها شيخوخة في الأسلوب أو خورا في المعاني، بل بقي ماء الشباب يجري في وجهها يسر الناظرين، بقيت محتفظة بالأسلوب الجزل الذي نطق به أعراب الجزيرة العربية في نواديهم الشعرية ومفاخرهم النثرية، وهذا القاموس اللغوي الثري الذي تحويه اللغة العربية لم تشهده لغة في تاريخ البشرية.
يحدّثنا مصطفى صادق الرافعي في كتابه تحت راية القرآن، عن هذه العصا السحرية التي تمتلكها العربية قائلا:
إنّ هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت، لأنها أعدّت من الأزل فَلكاً دائِراً للنيِّرين الأرضيين العظيمين، كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع.
لقد لاحظ المنصفون الغربيون مكانة اللغة العربية، وعبّروا عن إحساسهم وشعورهم تجاه هذه اللغة العريقة، وقد ذكر الأستاذ أنور الجندي في كتابه الفصحى شيئا مما قالوه ونظموه، وجاء فيه ما قاله المستشرق أرنست رينان:
بأنّها خلافاً لكل اللغات، ظهرت فجأة في غاية الكمال، غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنّها ظهرت منذ أول أمرها تامة مستحكمة.
ويقول جوستاف جورنياوم:
السعة في اللغة العربية أمرها واضح، ومن يتتبع جميع اللغات لا يجد فيها لغة تضاهي اللغة العربية، ويضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات، وتزين الدقة، ووجازة التعبير، وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وأنّ ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيرًا فوق كل لغة بشرية أخرى، ولها خصائص جمة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف لها نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها.
من جانب آخر نجد أنّ بعض الحاقدين على الإسلام وأهله من المستشرقين والشعوبيين، أسسوا مدرسة للعنصرية ضدّ العربية، على فكرة أنّ اللغة العربية ترمز لقومية العرب والتعصب لهم ونبذ ما سواهم من الشعوب الأخرى وما لديهم من لغات وثقافات، وهذا لعمري لهو محض السفه والتيه، ذلك أنّ العربية لم تنل قدسيتها قبل الإسلام، بل العرب أنفسهم قبل الإسلام كانوا مشتّتين ضائعين في أوحال الخرافة والعنصرية والطبقية والقومية، لكن بعد دخولهم في الإسلام وقف أحدهم قائلا:
نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غير ما أعزنا الله به أذلنا الله، وهذا المنطق هو منطق كل مسلم على ظهر البسيطة، والتشريف في الاسلام قائم على قدر التضحية لا على قدر النسب والشرف، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه، وقال أيضا:
أيها الناس، ألا إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى.
ثمّ إنّ ثقافة احتكار اللغة العربية على قوم بعينهم لا تخدم الإسلام، وإنّما تخدم المتربصين بالإسلام الذين ما فتئوا يمكرون له بالليل والنهار، ثم إنّ هؤلاء الأدعياء الذين يدعون العروبة اليوم لا يعرف لهم نسب متصل بالعرب الأقحاح، وإنّما هم مُستعربون يحاولون ركوب الموجة دون الرجوع إلى الإسلام الذي يذم التعصب على حساب الجنس أو اللون أو اللغة.
إنّ الجنسية التي تجمع الإندونيسي في جاكرتا شرقا، والسيبيري في جبال سيبيريا شمالا، والجنوب إفريقي في جنوب إفريقيا جنوبا، والسنغالي في غرب إفريقيا غربا، هي الجنسية القرآنية القائمة على الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وهذا يستلزم من جميعهم معرفة اللغة العربية التي يحق لهم بها ملكية هذه الجنسية، بعيدا عن لون بشرتهم وسحنتهم، وهذه الرابطة القرآنية لا تمنعهم من معرفة لهجتهم التي ولدوا عليها. وحين يتقرّر لدينا هذا المبدأ نقول:
إنّ اللغة العربية ليست خاصة بالعرب، ومن يحاول احتكار العربية على جنس العرب، عليه أن يتذكر بأنّ العربية لولا احتضان الاسلام لها لكانت اليوم ضائعة في غياهب النسيان، والذين خدموا اللغة العربية أكثرهم ليس من جنس العرب، وإنّما دعاهم عزّ الاسلام والحميّة له إلى دراستها والعناية بها دون أن يلتفت أحدهم إلى عرق أو جنس، كما أنّ الذين خدموا الإسلام عموما ليسوا من العرب مما يؤكد بأنّ الزعم القائل بأنّ اللغة العربية أمرٌ يخص العرب مُجرّد تخرُّصات لا يدل عليها دليل.
نعم، خدم العربية سيبويه وهو ليس بعربي ونال مكانة في قلوب المسلمين لم ينلها أبو لهب ولا أبو جهل، خدمها ابن جني وهو رومي ليس بعربي، خدمها ابن فارس وهو ليس بعربي،
خدمها أبو حاتم السجستاني وهو ليس بعربي، خدمها الفيروز آبادي وهو ليس بعربي،،،، كما أنّنا نجد البخاري، ومسلما، وأبا داوود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، كلهم خدموا السنة النبوية، والصحيح من أنسابهم أنّهم ليسوا عربا، وفي عصرنا الحديث نجد جمال الدين الأفغاني، ومحمد إقبال، والندوي، والمودودي، وإحسان إلهي ظهيري، وأحمد ديدات، وغيرهم قد خدم الاسلام بفكره وقلمه وهو لا صلة له نسبية بالعرب.
إنّ هذا يدعونا إلى القول بأنّ هؤلاء العلماء الأفذاذ الذين خدموا الاسلام وعلومه، والذين هم ليسوا عربا في المنشأ، وجدوا تقديرا واحتراما لم ينله الكثير من العرب الأقحاح، والسبب هو أنّ هؤلاء اهتموا بالإسلام فرفع الله شأنهم وتخلى عنه أولئك فأنزل الله مكانتهم.
إنّ معرفة اللغة العربية لا تتعارض مع الهوية الثقافية التي ينتمي لها الشخص أيا كان، ذلك أن الإسلام الذي احتواها لم يمنع من معرفة غيرها من اللغات، بل إنّه يشجع الابداع العلمي والمعرفي من أجل تبليغه إلى الناس كافة، واللغة هي الوسيلة الأولى للتواصل بين الشعوب والأمم.
إنّنا في واقعنا العملي اليوم في عصر العولمة نجد الدول العظمى التي تفتخر بالحرية والديمقراطية، نجدها من أشدّ الناس تكريسا للعنجهية ولغة الاستعلاء.
ففرنسا عاصمة العلمانية الملحدة تمنع على أبنائها الصغار تعُّلم أي لغة أخرى خشية امتهان اللغة الفرنسية واختلاطها بغيرها مع العلم بأنّها ترغم الأفارقة الفرانكفونيين على تعلُّم لغتها الاستعمارية، وهكذا في الصين واليابان وألمانيا.
إنّ أعظم بطاقة هوية يحملها المسلم معه ويتجول بها في العالم هي دينه الذي ينتمي إليه ويؤمن به، وتعلُّمه للغة دينه يدخل في إطار هويته الدينية، وإهماله للغة دينه يجعله يقطع أواصر ارتباطه بنسبه الديني مما يؤدي لامحالة إلى ضعف الدين في تفكيره وسلوكه.
لقد حاول بعض الكُتاب أن يقارن بين اللغة العربية واللغة اللاتينية، داعيا إلى إدخال اللغة العربية إلى المتاحف وتقسيم دول العالم العربي والاسلامي على أساس لهجي، دون الارتباط باللغة العربية، بحجة أنّ اللغة اللاتينية التي كان يتكلّم بها شيكسبير وأمثاله من الأدباء الانكليز قبل ثلاثة قرون لم تعد موجودة، وأنّ اللغة العربية التي كان يتكلم بها امرؤ القيس وعنترة بن شداد ما زالت موجودة وأنّها أولى بدخول المتاحف.
ما لا يعلمه هؤلاء الكتبة أنّ سبب بقاء اللغة العربية هو الحاضن الذي تكفّل الله عزّ وجل بحفظه، أمّا لغة شيكسبير وأمثاله فهي لغة آنية غير قابلة للاستمرار.
العربية لغة أمّة، لها حاضرها وماضيها، لا يمكن للسنين والحوادث أن تجرفها إلا إذا سلبتها هويتها الاسلامية التي جعلت منها شيئا يذكر.
إنّ مُحاولات عزل الأمة الإسلامية عن لغة دينها، سبب رئيسي في إضعاف ثقتها بدينها وهويتها الحضارية، سبب في تشرذمها وتفككها، سبب في عزل العرب عن غير العرب، سبب في إحياء النعرات القومية وما كان خامدا من أدران الجاهلية، سبب في القضاء على بيضتها من أجل الانقضاض على ما عندها من خيرات.
لقد عمل الغرب على إضعاف العالم الاسلامي بعد أن أسقط الخلافة الاسلامية في تركيا وأحلّ محلّها علمانية مصطفى كمال أتاتورك التي بدّلت كل شيء له علاقة بالإسلام، حتى الأذان قام بتغييره إلى لهجة عامية اخترعها ليست بعربية ولا تركية أصيلة. كما أنّهم قاموا بتأسيس جامعة الدولة العربية سنة 1945م، من أجل إضعاف الهوية الاسلامية، والرابطة الايمانية التي كانت عند عبد الحميد الثاني، وهذه الجامعة لا يخفى على مسلم أنّها مبدأ أساسي لتكريس الهوية العربية وفصل كل ما لا علاقة له بالعرب كالأفارقة والآسيويين ومسلمي أوربا وآمريكا وروسيا.
ثم إنّهم أسسوا في داخل جامعة الدولة العربية أحلافا أخرى ليتأكد مبدأ فرق تسد، فقاموا بتأسيس مجلس تعاون خليجي واتحاد مغرب عربي، كل هذا وإن كانت الدول الأعضاء لا تحمل ضغينة بينها إلا أنّ هذا وبلا شك يؤسس لثقافة التفاضل على أساس القوة الاقتصادية لا على مبدأ التنافس الاجتماعي والديني.
كما أن الأوربيين قاموا عبر منظمة الأمم المتحدّة بإنشاء الاتحاد الافريقي وغيره ليسهل عليهم تجزئة العالم الاسلامي مما يجعله لقمة سائغة لكل من أراد التهامه من الدول الاستعمارية.
إنّ الرجوع إلى الاسلام الأصيل، الخالي من الشبه، والتمسك به وبلغته سيجعل الأمة المسلمة اليوم تستيقظ من غفوتها، وتنفض عنها غبار الكسل والانصهار في الثقافات الوافدة إليها، مما يجعلها مؤهلة لمنافسة العالم في شتى مجالات الحياة.
المهدي ولد أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي
ملاحظة: يتواصل الموضوع