جدلية عقوبة المرتد بين الأخروية والدنيوية (2) / المهدي بن أحمد طالب

أستفتح إمامنا الشاطبي في بيان كلامه عن القصد من وضع الشارع للشريعة الإسلامية بأنّها رسمت أحكامها للمصالح، الدنيوية والأخروية، ويستحيل - عقلا - أن يقع تعارض بين أصولها وفروعها، وبين مطلقها ومقيدها، وبين خاصها من عامها، وبين ناسخها من منسوخها، وما يقع من تعارض لا يخرج عن كونه تعارضا ذهنيا في ذهن المجتهد، ذلك أنّها ربانية المصدر، نبوية التفصيل والبيان.

 

قال أبو إسحاق الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات:

إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات، أو الحاجيات، أو التحسينات، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها، أو تختل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها، إذ ليس كونها مصالح إذا ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا، وكليا، وعاما، في جميع أنواع التكليف، والمكلفين، وجميع الأحوال.[1] انطلاقا مما سبق نقول:

الشريعة الإسلامية جاءت لحفظ المصالح، ودرء المفاسد، جاءت لسن قوانين وتشريعات تحمي الفرد والمجتمع، على أساس من التكامل والتكافؤ، منعت الاعتداء على الكافر الأصلي دون وجه شرعي، ومنعت الداخل فيها، والموقع على مواثيقها، من التنكر لأحكامها، والخروج منها، وعليها، دون عقاب يردع أمثاله المرتكسين على أعقابهم.     

قال الأستاذ الشنقيطي: وردت آية (لا إكراه في الدين) بصيغة من أعم صيغ العموم في اللغة العربية وهي النكرة في سياق النفي والنهي، مما يعني شمولها لكل الأحوال: ابتداء، واستمرارا، وانتهاء.

إنّ ورود هذه الآية بصيغة من صيغ العموم لا يعني أنها غير مخصوصة، إذ ما من عموم إلا وهو مخصوص ـ كما هو معلوم ـ عند أهل الاختصاص ـ باستثناء سبعة مواضع في القرآن ليس هذا محل إيرادها، وهذه الآية خُصت بأهل الكتاب، الذين ورد ذكر سبب نزول الآية فيهم - في المقال الأول - وحكمهم هو التخيير بين الإسلام، أو الجزية، أو السيف، ولا يرغمون على أحد من هذه الخيارات إلا حين يمتنعون فيكون مصيرهم، السيف،  أمّا أهل الأوثان وعباد الأصنام من المجوس وغيرهم فلا خيار لهم غير السيف أو الإسلام .[2]

فمن حيث الابتداء لا يرغمون، وبعد الدخول في الاسلام والتوقيع على مواثيقه - العامة والخاصة - يلزمهم الاستمرار على احترام تلك المواثيق والعهود، صيانة لدمائهم وأعراضهم وأموالهم، وحين يختل أمرهم انتهاء، يعاملون بنقيض قصدهم، وسوء طويتهم، فيختل عقدهم، ويسلبوا ما ضمن لهم من حقوق.

قال الأستاذ الشنقيطي: عجباً ممن يسألنا ماذا فعلتم بحديث آحاد ملتبس المعنى (من بدَّل دينه فاقتلوه)، ولا يسأل نفسه ماذا فعل بآية محكمة (لا إكراه في الدين ).

إنّ حديث (من بدَّل دينه فاقتلوه)، حديث أراد البعض الطعن فيه من جهة السند وهيهات ، فقد رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، والطيالسي، والشافعي، وعبد الرزاق، والحميدي، وابن حبان.

قال عنه الشيخ الألباني - رحمه الله - في إرواء الغليل: حديث صحيح رواه الجماعة إلا مسلما.[3]

أما التباس المعنى فلا يقبل من مجتهد القرن الرابع عشر مثلكم سيدي- الكريم - وأنتم تتكلمون في أصول مسائل الدين الفقهية، وتطعنون فيما أجمعت عليه الأمة وتلقته بالقبول، كأحكام الرجم وقتل المرتدين.

قال إمامنا مالك بن أنس - رحمه الله -: معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى والله أعلم، من غير دينه فاضربوا عنقه أنه من خرج من الإسلام إلى غيره.[4]

الدين المقصود بالتبديل هو الإسلام، ذلك أنّ الله تعالى حصر الدين فيه (إن الدين عند الله الإسلام )، ولقوله ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه )، ثم إنّ الكفر ملة واحدة، فإذا خرج الكافر من ملة كفرية إلى أخرى لا يخرجه عن كونه ما زال يعيش في بوتقة الكفر.   

لقد تواتر معنى حديث (من بدَّل دينه فاقتلوه)، وتلقته الأمة بالقبول وإن كان آحاد السند فإنه متواتر المعنى، ولم يطعن في سنده أحد من أهل الإسلام، ممن يحتج به في الجرح والتعديل، وأما طعن من لا يعتدُّ به في الصنعة الحديثية، فلا يضر الحديث - سندا ولا متنا - ويكون من باب التقول على الله بغير علم ولا بينة.

لقد قلت - سيدي الكريم - إن حديث الباب حديث آحاد، فما جوابك عن حديث (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إِلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المُفارق للجماعة ) الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه و أحمد والبيهقي.

فعبارة (التارك ) وردت معرفة بأل العموم، وبهذا تعم أي شيء من أنواع الترك، على قولكم ابتداء، واستمرارا، وانتهاء.

قال النووي - رحمه الله -: التَّارك لدينه المفارق للجماعة عَامٌّ في كل مُرْتَدٍّ عن الإِسلام بأيّ رِدَّة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إِلى الإِسلام.[5]

إن القول بعدم قتل المرتد  حادث، والمشهور في صدر الإسلام وتاريخه هو قتل الرجل ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة، أما المرأة فقد قال أبو حنيفة أنها لا تقتل لعموم النهي عن قتل النساء، وقد فهم مالك من حديث ( من بدّل دينه ...) بأنه يقتل إن تمادى في كفر.[6] قال بدر الدين العيني - رحمه الله -: أجمع العلماء على قتل الرجل المرتد إِذا لم يرجع إِلى الإسلام، وأصر على الكفر، واختلفوا في قتل المرتدّة فجعلها أَكثر العلماء كالرّجل المرتد، وقال أبو حنيفة، رَضِي الله تعالى عنه: لا تقتل المرتدة لعموم  النهي عن قتل النساء .[7]

وهذا الذي روي عن أبي حنيفة الأعظم - رحمه الله - مخالف لما رواه الطبراني في معجمه الكبير أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -  إلى اليمن قال له: (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن تاب فاقبل منه، وإن لم يتب فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن تابت فاقبل منها، وإن أبت فاستتبها).

قال الحافظ بن حجر - رحمه الله - سنده حسن، وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه، ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها، الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقذف، ومن صور الزنا رجم المحصن حتى يموت.[8] 

وعليه فإن أدلة قتل المرتدّ عامة ولم يرد ما يخصصها، وما جاء عن الحنفية في منع قتل المرتدة قياسا على الحربية لا يعني بالضرورة عدم قتلها إن تمادت على كفرها وامتنعت عن الاسلام أو الجزية.

قال ابن بطال - رحمه الله - وأما قياسهم لها على الحربية، فالفرق بينهما، أن الحربية إنما لم تقتل إذ لم تقاتل؛ لأن الغنيمة تتوفر بترك قتلها؛ لأنها تسبى وتسترق، والمرتدة لا تسبى ولا تسترق، فليس في استبقائها غنم.[9]

قال الأخ الأستاذ الشنقيطي - حفظه الله -: ولا يسأل نفسه ماذا فعل بآية محكمة (لا إكراه في الدين ).

نقول إن آية (لا إكراه في الدين ) نحملها على سبب ورودها على القول بأنّها مخصوصة  وهو أن جماعة من الأنصار، أرادت إرغام أبنائها من اليهود والنصارى على الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك، فكذلك في زماننا لا نرغم أحدا من أهل الكتاب على الدخول في الإسلام، وعلى القول بأنها منسوخة نقول خاصة بأهل الكتاب قبل نسخها بسورة التوبة.

ونقول ـ كذلك ـ ما  ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية بقوله: لا تكرهوا أحدا على الدُّخول في دين الإِسلام فإِنَّه بيِّن واضح جلِيٌّ دلائله وبراهينه لا يحتاج إِلى أن يكره أحدٌ على الدُّخول فيه، بل من هداه الله للإِسلام وشرح صدره ونوّر بصيرته دخل فيهِ على بيّنة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإِنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا.[10]

نقول ما قاله الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: إن بعض المغرضين من أعداء الإسلام يرمونه بالتناقض فيزعمون أنه فرض بالسيف، في الوقت الذي قرر فيه أن لا إكراه في الدين، أما بعضهم الآخر فيتظاهر بأنه يدفع عن الإسلام هذه التهمة وهو يحاول في خبث أن يخمد في حس المسلم روح الجهاد ويهون من شأن هذه الأداة في تاريخ الإسلام وفي قيامه وانتشاره ويوحي إلى المسلمين- بطريق ملتوية ناعمة ماكرة- أن لا ضرورة اليوم أو غدا للاستعانة بهذه الأداة![11]

إنّ الدين الذي حافظ على معتقدات الآخرين حري بأن يحافظ على عقيدته في المقام الأول.

ثم إن آية ( لا إكراه في الدين ) ليست على ظاهرها، وأجهل الناس من فهم أنّ المسلم المرتدّ لا يكره على الإسلام.

قال أبو محمّد ابن حزم ـ رحمه الله ـ  وأما قول الله تعالى ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) لم يختلف أحد من الأمّة كلّها في أنّ هذه الآية ليست على ظاهرها؛ لأنّ الأمّة مجمعة على إكراه المرتدّ عن دينه، فمن قائل: يكره ولا يقتل، ومن قائل، يكره ويقتل.[12]، وقال في موضع آخر: هذه الآية ليست على ظاهرها وإنما هي فيمن نهانا الله تعالى أن نكرهه، وهم أهل الكتاب خاصة.[13]  

قال الأستاذ الشنقيطي - حفظه الله -: القطعي (القرآن الكريم) مقدّم على الظني (حديث الآحاد) عند العقلاء، فضلا عن العلماء، والترجيح عند التعارض واجب، وأي تعارض أكبر من حكم تترتب عليه موت أو حياة؟

إنّ النص القطعي مُقدّم على الظني عند العقلاء، ولا تعارض عند العقلاء ـ كذلك ـ بين النصوص الشرعية الثابتة، فكلها من عند الله ويستحيل ـ عقلا ـ أن يتعارض ما عند الله، وما يقع من تعارض في الوحي الثابت هو تعارض ذهني في تصور المجتهد.

إن النص الشرعي معصوم عن الخطأ، واجتهادات المجتهدين وأفهامهم غير معصومة من الخطأ، ويستحيل عقلا وشرعا أن تجمع الأمة على خطأ كذلك، وحين يتقرر لدينا هذا المبدأ العظيم ينجلي عن تصوراتنا الكثير من التصورات والأوهام الخاطئة.

لا تعارض البتة بين حديث ( من بدّل دينه فاقتلوه) وآية ( لا إكراه في الدين )، فالحديث صان وحافظ على الإسلام وقيمه وسلوكه، وآية( لا إكراه في الدين )، حافظت على الديانات السماوية الأخرى، من أن يكره أحد من أتباعها على الإسلام، وهذا المبدأ تجلت فيه أنصع تجليات الإسلام، لا ينكرها إلا مكابر أو معاند.

الترجيح بين المتعارض - ذهنيا - يعمد إليه عند العجز عن الجمع أو النسخ، ولا يجوز - شرعا - إهمال النصوص الشرعية، مع القدرة على الجمع، أو النسخ، ومن رجح بعض الأدلة مع قدرته على الجمع بينها أو نسخها، يخشى عليه من الوعيد الذي توعد الله به أهل الكتاب في قوله ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون ). المراجع:

]1] الموافقات للشاطبي (1/285)، ط، دار الحديث.

[2] فتح القدير للشوكاني (1/315) ط، دار ابن كثير.

[3] إرواء الغليل للشيخ الألباني (8/124)، ط، المكتب الإسلامي.

[4] الاستذكار لابن عبد البر (7/151) ط ، دار الكتب العلمية .   

[5] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنوي (11/165) ط، دار إحياء التراث العربي.

[6] الاستذكار لابن عبد البر (7/151) ط ، دار الكتب العلمية .  

[7] عمدة القاري للعيني  (24/41) ط ، دار إحياء التراث العربي.

[8] فتح الباري لابن حجر (12/272)، ط، دار المعرفة.

[9] شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/574)، ط، مكتبة الرشد.

[10] تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/682) ط ، دار طيبة للنشر والتوزيع.

[11] في ظلال القرآن لسيد قطب (1/293) ط ، دار الشروق .

[12] المحلى لابن حزم (12/119)، ط، دار الفكر. [13] المحلى لابن حزم (5/414) ط، دار الفكر.

 

المهدي بن أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي

يتواصل هذا الموضوع في عشر مقالات ....

12. يناير 2014 - 10:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا