مسرح الجريمة هو مصطلح قانوني يحتاج إلي معرفة بالقانون "لحده" ولتعريفه ، وبما أن الموضوع ليس بحثا أكادميا ..فإن ذلك يشفع لنا بأن نكتفي ـ هنا ـ بالتنبيه إلي أن هذا المسرح ليس يختا أو أوركيسترا ، ليس ضيقا محصور الجوانب من حيث المكان ، وليس مكانا للعب السياسي..والترويح عن النفس
وإشفاء الغليل ولو بالتشفي ..إنه عمل يمتد به المكان ليشمل أحيانا أقصي بقاع العالم بعدا عن مكان الحدث ، ويمتد به الزمان ليستمر سنوات بل عقود.إنه عالم لا معالم فيه غير مكان الحدث وبعض البصمات هنا أو هناك حيث يخلف المجرم أثرا ، وإنه نفق بعيد مابين فوهتيه . إنه جوقة يمتزج فيها الجد بالهزل ، وهودليل وجود نية أو قصد مثير للجدل .
يحتاج هذا المسرح إلي قدر كبير من الصبر والتأني ، لفهم أبعاد الجريمة ، ولحصر تداعياتها في المكان والزمان ، عملا باعتبار المآل وسد الذرائع ، في التعامل مع الواقعة بعد حدوثها ...
وعندما تكون الجريمة بحجم الإساءة إلي الرسول صلي الله عليه وسلم و تمزيق المصحف الشريف ، في بلد إسلامي لا يزال من أشد بلدان العالم الإسلامي محافظة علي المقدسات الإسلامية ، فإن الصبر والتأني يكون آكد ـ هناك ـ أكثر من أي مكان آخر ، لشدة وقع الصدمة في نفوس الناس ، لكن من المعني أولا بهذا الصبر والتأني ؟ أم أنه مطلوب من الجميع ؟ ثم ما هي حقيقة هذه الجريمة ؟ وما هي أهدافها ؟ أسئلة ضمن أخري تركز علي ما بعد الجريمة وتداعياتها ..أكثر جدوائية من البحث عن من وراءها ، وتمجيد وردة فعل لا تطال مصدرها .
من الملاحظ أن أغلب من كتب حول جريمتي: الإساءة إلي سيد الخلق وتمزيق المصحف الشريف ، قد ركزوا في كتاباتهم عموما علي أمور تعد من البديهيات ، التي لا تحتاج إلي تبيان ، وخلصوا إلي نتائج هي من باب تحصيل الحاصل ، فمثلا عندما ينشغل الكاتب في تناوله لهذه الجرائم ، بمحاولة الكشف عن الأيادي الخفية وراءها ، ليخلص إلي أنها آثمة ، وأنها أيادي العدو الصهيوني الغادرة، فإنه لم يأت بجديد يذكر .
هذا أمر بديهي ومعروف سلفا ... حيث نجد بصمات تلك الأيادي واضحة جلية في تلك الجرائم ، مما يشجع القول :إنها هي أول متهم بها، لكن هل ستسمح تداعيات الحدث وتعامل الأطياف السياسية معه ، بأن تظل تلك الأيادي هي السبب الوحيد وراء حصول تلك الجريمة.. ؟.
إن مثل هذه الجرائم يمكن أن يصنف قانونيا ضمن جرائم الشروع ـ كالجرائم المتعلقة بأمن الدولة ، وهي في الواقع جرائم شروع تهدد أمن الأمة الإسلامية جميعا، فالقصد من هذه الجرائم ليس هو ذات الفعل المنجز خلسة في ظلام الليل ، وهو لا يقف عند حده ، بل القصد أبعد .. حيث لا يعتبر القيام بذلك الفعل سوي بداية تحتاج إلي توليد ردات فعل متتالية لتوصل الفعل إلي أهداف القصد الحقيقية والتي لا يمكن أن يحققها مجرد عمل جبان كهذا .
كان حريا بالكتاب والمدونين أن يكشفوا ما وراء الأكمة ،وأن يسايروا الحدث بالبحث فيما بعد الحدث من تداعياته ، وأن لا يخالفوا إلي الاهتمام بالحدث في لحظة أصبحت من الماضي .
و يجب أن نقف قليلا عند مفهوم الجريمة ، لنبين أنه نسبي فما هو جريمة نكراء ـ مثلا ـ عند المجني عليه الآن ليس شيئا يذكر عند الجاني، ولهذا فإن حرق المتون المالكية والإساءة إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وتمزيق المصحف الشريف ، هذه جرائم ما بعدها جريمة بالنسبة لمن يعمر قلبه الإيمان الصادق ، لذلك نلاحظ أن البعض يبدأ مقالا أو يختم تدوينة بالسؤال ماذا بعد ؟ وهو سؤال مبرر ، لكن هذه الجرائم النكراء ليست شيئا بالنسبة للفاعل المباشر أو غير المباشر ... فما الذي سيجنيه أؤلائك من حرق كتب ومن كلمة طائشة بحق من كفاه الله شر المستهزئين ، ومن تمزيق أوراق المصحف الشريف الذي قال الله سبحانه تعالي فيه :"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ؟؟؟.
هذا بالنسبة لهم ليس جرائم ، إنما الجريمة الحقيقية بالنسبة لهم ، والتي يريدون حصولها هي : أن يتمزق كيان العالم الإسلامي وتتفرق صفوف المسلمين في كل بلد من بلدانه.. وهنا نجد أن مسرح الجريمة ، يتجاوز حوزة المسجد وتمزيق المصحف الشريف إلي الشوارع والحارات والمدارس والمحلات التجارية ..وتمزيق بنية المجتمع . هذا أمر ليس خافيا علي أحد ، ورغم ذلك نجد ـ للأسف الشديد ـ أن حكماء البلد ونخبه السياسية ، المطالبة علي وجه الخصوص بضرورة الصبر والتأني حيال التعامل مع هذه الجرائم ، لا تساهم في التخفيف من موجة الغضب الشعبية العفوية المتولدة حاليا بسبب هذه الإساءات الأخيرة .
حيث يستمر الإعلام التابع لهم ببث شتي صنوف التحريض علي التظاهر والدفع إلي استمرار غليان الشارع ،وكأن الأمر فيه متعة عندما يتفرج الناس علي جثث أبرياء سقطوا من زحام الناس في الشوارع ، أو بسبب اختناق جراء استنشاق دخان مسيلات الدموع ، وتلتقط منها صور يتنافس المصورون في دقة وجودة وفنية التقاطها ، ويتباهي صحفيون بحبك الخبر وجودة صياغته من حيث شدة تأثيره ووقعه في النفوس ، وكأن في الأمر إشفاء للغليل في التحريض علي النظام وزعزعة أركانه، وفيه ترويح عن النفس بإحراجه والإبلاغ الكاذب بأنه لم يهتم بهذه الجريمة !!.
إذا استمر حال وسائل الإعلام المحسوبة علي المعارضة ، في هذا النهج من التعامل أثناء تغطية هذا الجرم ، فإن ذلك سيعتبر دون أدني شك سعي واضح للوصول بالجريمة إلي المستوي الذي يتفق فيه الجاني والمجني عليه علي أنها جريمة حقا (أي حين يتمزق كيان البلد ، وتذهب ريحه)، وحينها فليس من المستبعد اعتبار ذلك بصمة أخري في جزء آخر من مسرح الجريمة ، قد يوصل تحليلها ..إلي الإمساك بمجرم آخر لم يكن في عداد المتهمين ..!! كمتورط رئيس أو متعاون لإكمال هذه الجريمة والوصول بها إلي أبشع من يمكن أن تصل إليه تداعياتها.
لا يخلوا الواقع السياسي من سند حقيقي لاتهام بعض السياسيين بالوقوف وراء المسألة أو باستغلالها حيث توجد مجموعة من المعطيات ، التي لم يخطر علي بال أحد أنها قابلة لأن تكون دعامات لاتهامهم ، خصوصا في ظل عدم تفاعلهم مع الحدث بما ينبغي من الصبر والحيطة والحذر عند الشجب والإدانة والتنديد المطلوب شرعا .
ومن هذه المعطيات ـ مثلا ـ وقوع جريمة ولد لمخيطيرـ قبل أشهر قليلة ـ والتي لا شك أنها كانت أبشع جريمة يمكن أن يتسبب فيها مسلم في بلد مسلم ، ولاشك في أن وراء ذلك المقال المسيء أيادي خفية لها علاقة بإسرئيل الغاضبة من إغلاق سفارتها في موريتانيا .
فليست إرادة ولد لمخيطير إلا ترجمة حقيقية لتلك الإرادة الخفية التي تريد النيل من الإسلام والمسلمين في كل مكان ، مما يعني أن الفاعل الرئيس استغل ولد لمخيطير وتمالأ معه ، للقيام بهذه الجريمة النكراء ، وهذا يعني أن جريمة الاساءة إلي الرسول صلي الله عليه وسلم ، كانت متعمدة من جهات خارجة عن الملة أصلا ، استطاعت أن تجد لها يدا وعونا ..في هذه البلاد الطاهرة ، ليتعاون معها بمحض إرادته في الإساءة إلي سيد البشر عليه أفضل الصلاة وأزكي السلام .
أصبحت هذه الجريمة سابقة ، يبرر حدوثها أن يهون فعل كل منكر، وأن يختفي وراء فعلها وفاعلها كل فعل وفاعل جديد ، حيث يمكن أن يستغل حصول هذه الجريمة ذات الطابع الخارجي للقيام بجرائم أخري مماثلة ، يكون العامل الفاعل في حصولها هو سياسي محلي صرف مثلا...
ثم إن تزامن حادثة تمزيق المصحف الشريف ، مع اختتام منتدي الديمقراطية بالتوصية مفادها ضرورة النزول إلي الشارع ، إن استدعي الأمر أن يفهم علي أنه ليس صدفة ، فسيكون اتهام بعض الفاعلين السياسيين بالوقوف وراء الجريمة أمرا مستساغا وقابلا للتصديق .
وكذلك تزامن تلك الجريمة ،مع تدشين رئيس الجمهورية لقناة المحظرة الرائدة ...قد لا يٌعد ـ أيضا ـ من قبيل الصدفة ، إن استدعي الأمر ذلك ، بحيث يمكن اعتبار تلك الجريمة : عمل سياسي يراد من وراءه التشويش علي اهتمام رئيس الجمهورية بالمقدسات الدينية ،في الوقت الذي يقوم فيه بتدشين هذا السرح الإعلامي الاسلامي الكبير، وذلك عندما يٌتهم بعد حصول الحادثة بأنه يتهاون بالمقادسات الدينية ، حيث لم يقدم علي إعدام ولد لمخيطير حتي الآن ، ولن يقدم علي إعدام من مزقوا المصحف ...
فإذا استمر تفاعل السياسيين ..وإعلامهم الموجه ، مع هذه الجريمة علي النحو الذي يبعث علي استمرار غليان الشارع البريء، هل ستعيب أيها القارء الكريم أن يتهم أحد زعماء المعارضة بالوقوف وراء هذه الفعلة الشنيعة؟.
نحن نعلم طبعا ، أن الجهات الخارجية ، قد تكون وراء هذه الجريمة ، واختارت لها هذا التوقيت بالذات المتزامن مع تدشين قناة المحظرة ، والمتزامن مع توصية المنتدي.. بالنزول إلي الشارع والتظاهر من جديد ، لكن هل سيدل تعامل المعارضة .. في شجبها للجريمة علي أن ذلك التزامن أريد به تلفيق التهمة عليها ؟أم أنها سترمي بنفسها في قفص الاتهام؟.
لن يقبل النظام أبدا أن يَتهم المعارضة بالوقوف وراء هذه الجريمة ، ولو تأكد له ذلك ؛ حرصا منه علي أن يظل نظاما محترما بمعارضة محترمة في بلد محترم ، وأقصي ما هو مستعد لاتهام المعارضة به هو اتهامها باستغلال الجريمة ، وركوب موجة الغضب العفوي وتهديد أمن واستقرار البلد تبعا لذلك ، إن لم يتعاون الجميع من أجل إخماد هذه الفتنة المقصودة والمدبرة من جهات خارجية.
لكن الدعوة ـ هنا ـ إلي الصبر والتأني لا تعني التهاون بالجريمة .. والإشارة إلي ضرورة توخي المعارضة الحذر حتي لا تكون فاعلا رئيسا أو متعاونا في هذه الجريمة ، لا يعني أن النظام غير مطالب بأي شيء حيال هذه الجرائم المتكررة ، بل إنه مطالب باتخاذ الإجراءات المناسبة والمرضية.. في التعامل مع هذه الجرائم التي حدثت والوقوف في وجه من يسعي إلي تكرارها .
وقد وجدت في مقال الكاتب يوسف ولد المهدي ولد اجيد المعنون ب"قراءة لحادثة تمزيق المصحف الشريف " أحسن ما يمكن أن يٌنصح به النظام والمعارضة حيال التعامل مع هذا الحدث الإجرامي ، وذلك عندما قال :" نستنتج أن ظاهرة إستهداف المقدسات ظاهرة معقدة تجمع جميع العوامل السياسية والفكرية والإقليمية والدولية والفئوية و...إلي آخره وبالتالي من اللازم أن تواجه بسياسة حكيمة بعيدة عن سياسة رد الفعل والتجاوب مع عاطفة الجماهير الغاضبة أو التجاوب مع مطالب المعتدين فالأمر يجب أن يعالجه القضاء والأمن والمخابرات وفقا لمصلحة الدولة وبناء علي أحكام الشرع بعيدا عن مطالب الرأي العام لأنه حقيقة ما يهدف له هؤلاء المعتدون أن ترتكب الدولة أو المجتمع لا قدر الله ردود فعل راديكالية تؤدي للفتنة فينشأ وقتها تيار متطرف في الجانب الآخر أو يهدف هؤلاء أيضا إلي أن تتساهل الدولة والمجتمع لاقدر الله مع الأمر فيحدث تطرف في الجانب الديني وننزلق في متاهات كمثل التي إنزلقت فيها الجزائر ومصر في التسعينات فالمطلوب كماقلنا هو أن تنتهج الدولة سياسة تحقق التوزان بين مطالب الجماهير وضرورة ردع المعتدين وإكراهات العلاقات الدولية".