كنت من بين كثيرين زاروا مركز "النور الصحي" في بوحديدة، وعايشوا إيقاع العمل اليومي فيه، وخاصة قسم الأسنان، الذي يبدأ عادة زواره في المجيء ابتداء من الساعة السادسة والنصف صباحا، ليظفروا بالعلاج في وقت يناسبهم ويستجيب لظروفهم،
هذا الفرع الذي عايشت نشاطه مؤخرا وكانت زياراتي له مكثفة، لأسباب ليس هذا مجال سردها، كان يوم الجمعة الماضي يوما غير عاديا بالنسبة له ولكثيرين من أبناء هذا الوطن وخاصة منهم تلك الفئة المعدمة، أو تلك العاجزة عن مسايرة الأرقام الفلكية، التي يتباري فيها أخصائيو البلد وعياداته المنتشرة انتشار الفطريات في فضاءات وأزقة العاصمة.
كانت إذن جمعة غير عادية، لأنها بكل بساطة انتشر فيها خبر إيقاف خدمات "مركز النور الصحي"، والتهمة، هي: تنظيم التظاهرات وتهديد السكينة والاستقرار بالبلد.. مركز النور الصحي أصبح إرهابيا، يهدد الاستقرار الوطني؟ أسئلة ظلت تتردد على ألسنة كثيرين من زواره الذين ألفو قاعاته المتواضعة وبناياته الأكثر تواضعا وناسه الطبين الأكثر تواضعا وبساطة، أيعقل أن يصبح الخير شرا؟ إن تلك المراكز لا يمكن أن يدخلها الشر أو يخالطها الأشرار، لماذا؟
لأنها رحمة للضعيف ومأوي للمرضي المعدمين وللناس العاديين العاجزين عن دفع فاتورة الأخصائيين، ففيه وحده لا تتجاوز فاتورة الدخول علي الأخصائي خمسمائة أوقية فقط، وهو- فضلا عن ذلك- مبلغ، قد لا يضطر المريض إلي دفعه قبل الدخول، لأنه قد يصبح مؤجلا إلي ميسرة وإذا تعذر الحصول عليه، فهناك قلم جاهز لشطبه.
أما تلك الفئة التي تصرح بعجزها عن الدفع، فهي لا تواجه بالصد ولا بتغيير الترتيب المقدس في فروع هذا المركز، بل تحصل علي نفس الخدمات وبنفس الأريحية، التي يلمسها الزائر، منذ اللحظة التي يجد فيها الحصائر بانتظاره فجرا عند الحوانيت المجاورة، التي تتحول باحاتها إلي قاعة انتظار مؤقتة، حني يحين وقت الدوام ويحضر العاملون، لتبدأ بعد ذلك رحلة النداء بالأسماء، التي تخضع لنظام صارم، هو من صنع الزوار ولا دور فيه للعاملين، فهذا النداء مجرد فرصة ليحصل كل شخص علي رقم ترتيبه، ضمن اتفاق ضمني يحترمه الزوار ويطبقه العاكف منهم والبادي، في غياب تام لوجود أصحاب النفوذ وتقديم المعارف والأقرباء.. كل هذا المناخ وهذه الحركية والانسيابية في الزيارة والعلاج، تعرضت الجمعة الماضية إلي هزة مؤثرة، هي من مخلفات الماضي وكان يجب أن توضع في المتحف لتبقي جزءا من الماضي وليس الحاضر.
ما ذا تغير؟
صباح الأحد الموالي، نقص عدد الزوار إلي النصف تقريبا وخف الزحام، الذي يسبق الافتتاح عادة وكان الجو غير الجو والمظاهر شاحبة والناس غير مصدقين أن الظلام يستطيع أن يزيل النور، الذي ظل يشع علي الجميع ويخفف من ءالآمهم ويعالج مرضاهم، ومثل ضوءا داخل نفق الفساد والإفساد في هذا المنكب البرزخي، وكان مصدرا لبعث الدفء داخل محيط "الكزرة" الشاحب ووسط مشاهد بيوت القصدير والأزقة غير المنتظمة الاتجاه والمساحة في حي بوحديدة الشعبي بامتياز.
حضور العاملين قبل بدء الدوام، كان غير منتظم على غير عادته وافتقد تلك الحيوية المعهودة، وحرص العاملون على أن تبدو الأمور وكأنها عادية، لولا وجود الشرطة بلباس مدني وتعاقب شرطة الليل وشرطة النهار علي هذا البلسم، الذي يشع نورا وإنسانية.
دخل المرضي والمراجعون والمرافقون وبدأ النداء واستلم كل شخص رقمه وجلس الجميع في انتظار حضور الأطباء.
في المدخل وأمام مكتب المدير، ظل جهاز تسجيل الحضور، يرد بصوت جهور، يؤكد من خلاله تثبيته لحضور كل عامل وضع عليه بصمته، لكنه في ذلك الصباح لم يسجل بصمة المدير، الذي ترك غيابه عن المشهد أثرا واضحا: الحيوية خفت والحركة تثاقلت والوجوه تكسوها مسحة، تعكس حزنا أو خوفا من المجهول، لكن ضرورات التجلد ومتطلبات الموقف فرضت إيقاعا من نوع خاص..
هناك من تقمص شخصية المدير، بفعل الضرورة، وأصبح مكتب المدير لأول مرة موصدا أمامنا نحن الذين كنا ندخله بترحاب ودفء، وأطفئت شاشة المتابعة، وغاب المدير...
وعند ما دخل الدكتور دداه، ظننت أنه وصل متأخرا ذاك الصباح، لكن الساعة دلتني علي أنه حضر في الموعد تقريبا، فأدركت أن الوقت داخل المركز صار أطول، ولربما بالنسبة لي كان ذلك بسبب غياب المدير وأحاديثه حول السيرة وأسئلته الوميضية ومزجه العجيب بين التدقيق مع العاملين ومواصلة الحديث مع الزائرين، كل ذلك غاب الأحد الماضي، لذا صار الوقت أطول والمكان أقل جاذبية بالنسبة لي علي الاقل...لكن العاملين حافظوا علي هدوئهم واسترسلوا في أداء واجبهم، وظلت مديحة هي هي بتعاملها التلقائي في الاستقبال مع المرضي والمراجعين وحافظت علي دفئها وإنسانيتها الذين ظلا ميزة لسلوكها هي وزميلاتها وزملائها مع زوار المركز.
مدققة الحسابات هي الأخرى تميزت برباطة الجأش وعدم الإكتراث – ظاهريا على الأقل- بما حدث، رغم أنها تلك الصبيحة لم تنثر فواتيرها ولم تدقق بنفس الطريقة في حساباتها، فغادرت المركز لوجهة أخري بعد حضور قصير، قد يكون منشأه: غياب المدير.
ردود فعل رواد المركز
لقد كان للمرضي الزائرين لمركز النور الصحي موقف لافت، لا يخلو من جدية وطرافة في نفس الوقت وامتاز في المجمل بالتنديد والامتعاض.
فيوم الجمعة الماضي، هو يوم يكثر فيه عادة الأخصائيون الزائرون للمركز، وصادف قرار الحظر وجود مئات من النسوة، حضرن لمقابلة الأخصائيين، فما كان منهن- بعد الاغلاق- إلا أن علا صراخهن بالتنديد ومطالبتهن للدولة بتقديم البديل.
إحدى السيدات تساءلت ببراءة، هل عاد معاوية إلي الحكم؟ وآخرون طالبو بالمرابطة أمام المركز ليحافظوا علي الفرص التي يتيحها ذاك المرفق لعلاجهم.. الأحاديث كثيرة وردود الفعل كانت قوية ومتشعبة وجد غاضبة، لم يخفف من حدتها، سوى تراجع السلطات في اليوم الموالي،عن قرارها المفاجئ والمجحف بفئة من مواطني هذا البلد، هي أعجز من أن تدفع خمسة آلاف أوقية للدخول علي طبيب ومبالغ فلكية أخري مقابل فحوصات لا تعد ولا تحصي.
فمركز النور يحول الخمسة ءالاف إلي خمسمائة فقط وقد تصبح صفرا إذا قلت ذات اليد أو كانت الظرفية غير منا سبة، لذا فإن فقراء موريتانيا يحتاجون إلي لفتة غير منعهم من الدواء، كما أن للسياسة دروبا لا تفضي قطعا إلي أسرة المرضي ولا إلي المتاجرة بالمؤسسات الأهلية، التي تلعب أدوارا سدت المؤسسات الدولية علي الحكومات كل باب يؤدي إليها.
لذا يجب أن تبقي هذه المؤسسات التي تقدم كل شيء دون أن تأخذ أي شيء، بعيدة عن التجاذبات السياسية والمزايدات الانتخابية والمتاجرات الدولية، فشعبنا فقير، ويحتاج إلي من يواسيه، لا من يحرمه من فرص في الحياة، لم يجد من يقدماها له، سوى "مركز النور الصحي".. فلنتركه يقدم ما عجزت حكوماتنا وغالبية رجال أعمالنا عن تقديمه.. حتي لا ينعت الفاعل بأنه مثل" صهر الناس الذي لا يفرحهم في العيد ولا يسمح لأحد آخر أن يقوم بنفس المهمة".