كيف نفرح وجراحنا تنزف؟/ محمد المختار ولد محمد فال

تلخص أحداث الأسبوع الماضي، جزءا من المشهد الموريتاني الراهن، الذي يطفوا القليل منه فوق السطح وتتواري جوانبه العميقة  في القاع، فهو كالألكترون ندرك آثاره وتستعصي رؤيته بالنسبة لكثيرين من أبناء وطننا.

أحداث مرت بطيئة ومملة بالنسبة للبعض وتاريخية، "سيكون لها ما بعدها" بالنسبة لآخرين، ميزتها الأساسية أنها في المجمل ضاغطة وليس في الأفق المنظور حل جوهري لها، فقط مجموعة من المسكنات وسيل من الكلام لا يصدر بنبرة متجانسة ولا يعبر بلغة موحدة.
1- "تسبت" (من السبت)"لا تلمس جنسيتي"، بعيدا عن زعامتها هذه المرة وتقمع تظاهرتها،
2- يتظاهر أنصار "ميثاق الحر" ويغيب عنهم رمزين، الشيء الذي أدي إلي أن تخبوا جذوة الحدث الرمزية، بفعل الاستغلال السياسي وتدافع الموالاة والمعارضة، من أجل احتلال صدارته.
3- تلاشي أي أمل في نجاح الحوار السياسي الجامع، الذي عول عليه كثيرون كأداة لاستعادة المناخ الديمقراطي في البلد ووسيلة للتناوب السلمي علي السلطة.
4- فاتح مايو وما يحمله من هموم متراكمة ووعود متجددة.
5-مسيرة المبعدين وما صاحبها من ارتفاع في درجة الحرارة، وانخفاض في مستوى التفاعل عبر الطريق.
6- إضرابات عمال "اسنيم" المتفاقمة
7- اليوم العالمي لحرية الصحافة وما صاحبه من زبونية الدعوات وما هيمن عليه من مظاهر انتقائية.
أحداث تتداخل مع الواقع المعيشي وانهيار القوة الشرائية للمواطنين، وبطالة متفاقمة وهشاشة  في الامن وانعدام أفق جدي للتنمية، وخيبة أمل عززتها مظالم الكزرة  ودونية " دكاكين أمل".
مرارات توارت نحو الخلف وجعلتها هذه المحطات "الإبريلية" (نسبة إلى إبريل) تبدو وكأنها غير موجودة أصلا، بفعل رغبة السلطة في إشغال الناس بأمور، قد لا تبدو متفردة بالمسؤولية عنها، ودفعها لهم للانشغال بهموم ومطالب، هي في الجوهر من إفرازات ما قبل الدولة.
ومن أجل أن يتحول المشهد الانتخابي الحالي إلي مظهر احتفالي، يتناسى خلاله المواطنون همومهم الذاتية والموضوعية.. يتهيأ النظام هذه الأيام  لدخول "عرس"  تجديد الثقة في "رئيس الفقراء"، متسلحا بشعار: "سنوات أقل وإنجازات أكثر.. والمسيرة تتواصل"، مكتفيا بسيل من الوعود وقليل من الانجازات غير المكتملة.
نظام عجز عن شق طريق من إبداعه، ولم يبد رغبة في فك الارتباط بنهج الأنظمة اللاحق لها (أنظمة تروح ملهمة وتصبح منبوذة يتبرأ منها أخلص خلصائها)،  لذا اختار نهجهم الكرنفالي واستمر في دفع المواطنين للرقص على إيقاع دعايته، واثقا من أنهم لن يملوا من هذه الرحلة السيزيفية لبلدهم.
رحلة امتازت بثنائية متناقضة، تتجلى في  تبني السلط المتعاقبة( الحالية والسابقة) لبنيات ما قبل الدولة من أجل تسهيل " تسيير شؤون الدولة "، مستغلين العلاقات العائلية والعشائرية، التي هي في الواقع ضعيفة وهشة، وتستمد نفوذها أصلا من الدولة ذاتها وتقتات عليها، الشيء الذي يمكننا من فهم هذا التزاوج الغريب بين مستويين متنازعين ومتناقضين في الجوهر.
إنها "عبقرية" حكامنا الذين تعودوا علي الاستئثار بكل شيء، في مقابل بيعنا سيلا من الأوهام، شكل  غطاء معتما يخفي خلفه إخفاقات التنمية وفشل ذريع في إيجاد حل للحكامة، وهو ما حرمنا من ترسيخ دولة العدل والمساواة.
عبقرية تبشر هذه الأيام بحرية تذكي النعرات العرقية والفئوية وتدعو إلى مواطنة  مرتكزة على بذور الفتنة والتفرقة.. والفاعل مجهول.
عبقرية ترى في تفعيل وتسخين التناقضات العرقية والفئوية، أفضل دليل على وجود مناخ ديمقراطي، حري بنا أن نفاخر به.
إنها أنظمة تسعى إلي سلبنا أفضل ما عندنا، وتفاخر بمقايضته لنا بأسوإ ما عندها.
في ظل واقع كهذا كيف يتأتى للنظام أن يزرع الأمل من خلال "عرسه الانتخابي "،  الذي يستمد جذوته من أشلاء وطنه؟ ولماذا يسكت الناس على دفع بلدهم في اتجاه حافة الهاوية؟ وبأي مسوغ يقبل شعب بمجمله أن يختزل وطن بأكمله في شخص واحد؟
فبأي وسيلة يمكننا أن نتحكم في هذه "السنوات الأقل"، حتى تصبح تعبيرا عن إرادتنا وتجسيدا لخياراتنا؟ وبأي أداة يصبح المواطن قادرا علي التمتع بهذه "الإنجازات الأكثر"؟
بديهي أن الأنظمة العسكرية (الممتدة أو المتعاقبة: سيان) هي من رسخ علاقات ما قبل الدولة علي حساب الدولة، لذا بقى الشعب غير واع بحقوقه وواجباته وهو ما أدى إلى أن ينظر الحكام إلي البلد وساكنته بوصفهم أدوات لإشباع نزواتهم وتحقيق أمانيهم، تصدق فيهم مقولة المهاتما غاندي: "كثيرون حول السلطة، وقليلون حول الوطن".
من هنا يمكننا فهم خلفية جرأة الأنظمة المتعاقبة على أن تصف نفسها بأنها هي الوطن ذاته.. فمن يجرأ على معارضتها، هو مناوئ للوطن ومن لا يرغب في بقائها، هو عدو للوطن.
لذا تحولت القوانين  إلي ملك خصوصي للحكام وحاشيتهم، وأصبحت مجرد "تيرموميتر" لقياس درجة النفوذ، لا تطبق إلا وفقا لهوى الحاكم ويتناسب التلاعب بها طرديا مع قوة النفوذ.

 

كيف نفرح وجراحنا تنزف؟

رغم أن الأسبوع الماضي انقضي وبقي كل شيء في مكانه:
- تظاهرت تلك الجماعة المزايدة على حركتها المتطرفة، لتؤكد تباكيها علي سابق عهد الحالة المدنية في موريتانيا.
- وتأكد اتساع دائرة المتبنين ل"ميثاق الحر" وعكست المناسبة تدافع السياسيين ودخولهم لتلك المظلمة من الباب الواسع.
- طويت صفحة فاتح مايو وذهب معه ضجيجه ومطالبه ونجحت  النقابات العمالية بالتحسيس بمعاناة منتسبيها.
- وصلت مسيرة المبعدين إلي العاصمة وزادت حفاوة السياسيين بها، كلما اقتربت من نقطة نهايتها.
- تفاقمت أزمة عمال "اسنيم" ووصلت إلي مستوى شل أهم مرفق اقتصادي بالبلد والمطالبة بإقالة المدير العام.
- أكد "حفل" تخليد اليوم العالمي لحرية الصحافة أنه لم يتغير أي شيء، فلا زالت وزارة الاتصال عاجزة عن تجديد ذاتها ومقصرة في بناء علاقة ثقة مع الناشطين في الحقل التابع لها.
فرغم وجود وزير،  يعتبر من أكثر وزراء الاتصال كفاءة وفاعلية، إلا أنه لا زال رهينة لواجهات تسيء لنفسها قبل أن تسيء لغيرها.
فالبطاقة الصحفية والدعوات ظلا مجال احتكار وأداتين لتصفية الحسابات الشخصية ووسيلتين لتكريس زبونية، أثبتت التجارب السابقة أنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
إنه واقع مهني يستحق أن "يحتفي" به وهو "الأجدر" بأن يفاخر به، ما دامت الإرادة الجادة معدومة والزبونية هي الغاية والوسيلة.
ينضاف إلي كل هذه الجراح، واقع شباب تبدد حلمه في "ربيع" يخرجه من مأزق البطالة ويدخله في فضاء يسمح له بالمشاركة في اللعبة السياسية، التي شاخت وشاخ معها روادها.
ولا زال الفقراء كذلك ينتظرون وعود رئيسهم ويسعون إلى إطفاء جحيم الأسعار بأداة غير دكاكين "أمل".
أما الأمن فليس له، سوى حل مبتكر، تمثل في الإجهاز على قطاع الشرطة وخصخصته لصالح المتقاعدين، وتم دمج الجميع في همومه، ليتطاير دمه ويسهل التلويح به في وجه أي تحرك شعبي أو نقابي " لا تتوفر فيه الشروط المطلوبة ".
أما التعليم، فقد أوكل إلي المؤسسات الوافدة، والمناقضة أحيانا في العقيدة، وصارت المقررات التربوية جزءا من الماضي وزاد عدد رجال التعليم، المنخرطين داخل صفوف باعة "الأرصدة"، وأصبح مظهر الكثيرين منهم يقدم صورة بائسة عن البلد وساكنته.
  وتحولت المدارس العمومية إلي وكر لجرائم القتل وانحراف الناشئة ولم ينتعش فيها، سوى تجارة الوجبات الخفيفة وأرصدة الهاتف.
  الصحة هي الأخري، لم تعد مسؤولية وطنية، فقد تكفلت بها تونس، معززة بالمغرب والسنغال وأصبح شعارها محليا:  "ادفع أكثر.. لكن في عيادتي الخاصة"، أما الدواء، فهو" صالح لكل شيء، سوى العلاج".
كما قطعت الجوانب الاجتماعية شوطا لا بأس به من التدهور واللامعقول، فثلث الأسر الموريتانية  تعيلها نساء ومساهمتهن أيضا جد مرتفعة في إعالة البقية.
التفكك الأسري والعنوسة يمزقان النسيج الإجتماعي وينخران بنيتنا الاجتماعية ومنظومتنا الأخلاقية.
وانتهى  الدور التهذيبي للمدرسة وغابت مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وصارت مراكز الفيديو، هي البديل المتاح أمام الأطفال والمراهقين.
هويتنا أضحت سلعة تباع وتشتري وسياساتنا الخارجية مؤممة لصالح مستعمر الأمس وقارون اليوم.
حاضرنا وماضينا عرضة للمزايدات.. أما المستقبل فالله وحده هو من يعلم كنهه.
أمام واقع هذا جزء من مشهده، فمن أين لنا أن نحول "عرسا" شعاره: "سنوات أقل وإنجازات أكثر.. والمسيرة تتواصل" إلي واقع ملموس؟
إنها تحديات تستعصي علي مجموعة خيم داخل شوارع مدننا، معززة  بصور متفاوتة الحجم أن تشكلا جوابا لها، وهو ما يفرض مستوى من الواقعية، يستبصر " وحل" المنعرجات ويضع الجميع أمام مسؤولياتهم، بغية تقديم البديل.

الوطن الجامع هو البديل لظاهرة "بيرام- بيران"


فما دام  خيار دولة العدل والمساواة، قد استبعد وتم التعامل مع البلد كغنيمة شخصية وأسرية، وسمح بتراكم المشكلات المؤجلة والضاغطة، والتي تقدم نفسها اليوم بصفة ملحة وغير قابلة للتأجيل، بدءا من الصرف الصحي للعاصمة وانتهاء بالحكامة، مرورا بأحداث ومطالب الأسبوع الماضي، فلا بد إذن من أن نسائل النظام عن الآلية التي ستسمح له بالقفز فوق هذه المعضلات، التي تفاقمت في عهده، وعجز حتى الآن عن مجرد التخفيف منها؟
هل يخبئ مفاجئات، تتضمن حلولا لمجمل القضايا المطروحة، لا تتماها مع شعار: "رئيس الفقراء" وشطحات استقبال زعيم "افلام" الانفصالية والرعاية الخاصة لبيرام، التي تشي بها كثرة استقبالاته له وإطلاق يده وتسخير السلطة العمومية لصالحه؟
فأمام التحول العالمي وتراجع جاذبية الأنظمة الأحادية وتداعي مبدإ السيادة، أصبح من الصعب قبول الموريتانيين بتقزيم مطامحهم المستقبلية واختزالها في: شطحات بيرام وانعزالية بيران، المصحوبتين بسيئتي الفقر وأحادية الحكم، في ظل غبن فاحش في الموارد والفرص.
لذا لا بد من مواجهة الخطاب الفئوي وبذور التفتيت بخطاب ينطلق من رؤية جامعة  تتبني الوطن كخيار بديل، والوطنية والمساواة في الحقوق والواجبات نقيضا للتشرذم والتفتيت والوقوف بحزم ضد أي اصطفاف عنصري أو فئوي.
فلدينا عقيدة بوسعها  أن تصهر كافة فئات وقوميات البلد، ومن واجبنا الانطلاق منها كمرجع ومرشد، لمواجهة معضلات الحاضر وتحديات المستقبل.. هذا إذا كنا نريد حقا أن ننعم  بدولة القانون  ونرغب في تجسيد مواطنة كاملة، بعيدا عن التهميش والاستئثار، فلا دخان بدون نار ولا نفاذ للمتسلل إلا من خلال الثغرات، فلنسد الخلل، حتي لا يتحول حاضرنا المعلوم إلي مستقبل مجهول، يصعب تخيل احتمالاته وفداحة تداعياته.
 

4. مايو 2014 - 14:09

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا