وجئت يا رمضان / حبيب الله ولد أحمد

هو ذا أنت يا رمضان، تسافر إلينا ـ عبر الزمن ـ بوجهك الصبوح، وقامتك الفارعة، لتغمرنا حبا وألفة، ونورا وسكينة .
تقبل من بعيد، وبين يديك الرحمة والطمأنينة، وفى حقيبتك قرءان، وصلوات، وإنفاق، وتكافل، وحب.
تحمل إلينا في كل مرة عبقا من التاريخ، وتربطنا بالسماء، وتطير أرواحنا فراشات نورانية، 

تحلق في سماء الله، نقية طاهرة، ترتشف رحيق االعبادة، وترشرش ثلج العتق من النار.
أنت كما كنت ـ وكما ستظل دائما ـ الشهر الذي يحبنا ونحبه.
الشهر الأطهر والأقدس والأنقى .
تغيرنا بعدك، وأنت لم تتغير، بدلنا وأنت لم تبدل.
نحن الذين خرجنا من جلودنا،  وأصبحنا غثاء كغثاء السيل، يدب فينا الوهن، وقد فرطنا في ديننا، وابتعدنا عن نبعه الصافي الزلال، وابتغينا سبل الفتنة والشحناء، وأضعنا الصلوات، واتبعنا الشهوات، وعدنا لعصور الجاهلية.
تعود يا رمضان، وبمحياك الباسم أبدا ملمح حزن لا تخطئه العيون، كيف لا وأنت ترانا أمة غير التي عهدتها، وأوطانا غير التي عايشتها.
نعم سيدي، ستعرف منا و تنكر، و سترى فينا ـ ومنا ـ ما لا يسرك، وأنت ساعي البريد الأمين الذي ينقل إلى الأرض رسائل نور السماء، وألقها ورحمتها، وبردها وثلجها.
ما عاد لخيولنا صهيل يستقبلك، وما عاد لسيوفنا صليل يستهويك، وأنت شهر الفتوحات والجهاد والعزة القعساء ، شهر "بدر" و"حطين" و"القادسية".
لا تحدق فينا طويلا يا سيدي، فلا نقوى على تحمل نظراتك العاتبة، فنحن شبعنا ذلا وهوانا، وما عادت لنا قامات سامقة، فرؤوسنا وأنوفنا وجباهنا في وحل الهزيمة الواطئة ومن ألف عام يا سيدي..!!
لن ترى وجها للفاروق، ولا خيلا لخالد، ولا سيفا لسعد، ولا خوذة للمثنى، ولا صرخة لشرحبيل، ولا كبرياء لصلاح الدين، ولا زئيرا للرشيد، ولا غضبة للمعتصم..!!
سامحنا فنحن من قرون عديدة أصبحنا نحترف الهزيمة والانكسار، ونشرب الموت كل يوم مهانة واحتقارا، وتتخطفنا الفتن، وتضرب خلالنا الشحناء، وتحاصرنا قوراع الدهر.
لا تبتئس سيدي، ما عاد لدينا إحساس، هنا فسهل الهوان علينا "وما لجرح بميت إيلام"..!!
أعرف كم يغضبك أن يستبدل "الشام" لون الحدائق بلون الماء، وزقزقة العصافير بشهقات الموتى.
أعرف أنه يغضبك أن ترى أرض "العراق" تميد و تمور ظلما وقهرا، وهي التي كانت صخرة شماء أمسكت حضارة العالم ـ ومن البدء ـ  أن تميد.
أرى الحزن على وجهك وأنت ترى "فلسطين" سليبة، ومآذن "القدس" ثكلى، تبكى بصمت وتوجع أيام كنت تزورها وأزقتها تضيق بخيول الفاتحين وسيوفهم، وأفقها يتدثر بغبار معاركهم الخالدة.
تؤذيك رائحة شواء نسائنا وأطفالنا في "بورما" و"وسط إفريقيا" و"أفغانستان" و"الباكستان"
ما هذه "مصر" التي عهدتها يا سيدي، ولا هذه "ليبيا" التي عهدتها آمنة مطمئنة، ولا هذه "تونس" التي عرفتها خضراء منعمة الجبين..!!
سيدي ما عاد "اليمن" سعيدا، وما عاد الرعاة يأمنون على أرواحهم و قطعانهم في "نجد" و"الحجاز"..!!
انظر إلينا يا سيدي
خرائط من دماء ودموع وفجيعة..!!
حاضر من القهر والدمار..!!
عمائم تحارب عمائم،  ومذاهب تأكل مذاهب، وقبائل تنحر قبائل..!!
لا أرض لدينا، لا بر، لا بحر..!!
سيدي، لقد استذلنا الغرباء، فضربوا بعضنا ببعض، وأكلوا لحمنا، ومصوا العظم..!!
لا تبتئس يا سيدي، فنحن الذين غيرنا وبدلنا، ونحن الذين نحرنا أنفسنا، وحرقنا أوطاننا، وبعنا ثرواتنا،
سيدي لا تنظر إلينا، فأنت حيي سحي، ونحن حفاة عراة..!!
أنت صادق طاهر، ونحن نتعاطى الكذب والقذارة..!!
سامحنا يا سيدي، وزرنا دائما، ولا تيأس ـ وإن فرطنا فيك نصا وروحا ومعنى ـ   فمرور الجدول الرقراق على الصخور الصماء الجندل، يهذبها ـ مع الزمن ـ  وينحتها ليحيلها لينة وصقيلة، ولو تطلب الأمر قرونا من الزمن..!!
أنت غسيل ذنوبنا، ودواء قلوبنا، وحبلنا الذي نتعلق به طمعا في العفو والمغفرة، وتقربا إلى الله، واستحضارا لرسالة الدين القيم.
في كل مرة تأتينا ونحن بحاجة إليك طهارة ونقاء وسموا.
احمل إلينا الرحمة في كل مرة، وامنحنا حضنك الدافئ لنلقى فيه رؤوسنا المثقلة بالهموم، المثخنة بالجراح، المتورمة تحجرا وسفاهة وظلما للنفس وللآخرين..!!
في حضنك الحنون نلتقط أنفاسنا، ونحس أملا خفيا يستحثنا للعودة إلى الله، ليعود إلينا الطهر، وتعود إلينا الريادة، ونصطف مرة أخرى خلف الخيول والسيوف جهادا لا إرهابا، وانتصارا لا ظلما، وعدلا لا تغطرسا وصلفا، وتدينا صافيا صادقا، لا أثر فيه للغلو والتعصب، والتمذهب والشحناء.
عد إلينا مرات ومرات، فمن يدرى قد تعود إلينا ـ ذات مستقبل ـ لتجدنا وقد عدنا إلى المنبع والظل، فتعانقنا بوجهك الأصيل المشرق المهاب، الذي لا أثر فيه لليأس، وبلا ملامح فيه للحزن.

18. يونيو 2015 - 17:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا