إنه يشع بكمال الربوبية هذه الصفات التي يتحدث عنها هذا النص إنما هي صفات الخالق، المدبر، المكون، قيوم السموات والأرض.
وهذه المعاني التي تنبثق من هذا الكلام هي عبارة عن إشعاع يسري إلى كيان الإنسان أيا كان هذا الإنسان، حتى ولو لم يكن عربيا.
والإنسان عندما يسمع هذا الكلام فلا بد أن يسري إلى نفسيته ما لم يكن متكبرا.
أما إذا كان من المتكبرين فإن هذا الإشعاع المنبثق من الكلام السابق الذكر يصطدم بمشاعر الكبرياء في كيان هذا الإنسان ويرتد له..وهكذا..(104).
ويصف لنا البوطي هذا الصنف من البشر المتكبر من خلال حادثة وقعت في مجتمعه في مجلس عزاء، وهي أن أحد الحاضرين لما سمع تلاوة القرآن، وهو بعد لم يكد يمر على جلوسه دقيقتين، حتى التفت إلى زميله الذي يجلس إلى جانبه وأسر إليه قائلا:
( قم فإن هذا الكلام يكاد يغير عقلي) وخرج هاربا، فما الذي خافه هذا الإنسان على نفسه؟! لقد تأثر من شعاع الربوبية الذي يسري من هذا الكلام الذي سمعه إلى نفسيته ولقد كاد أن يدخل إلى نفسيته لكن سرعان ما اصطدم بكبريائه.
ومن هنا كان الفصل بين جلال الربوبية, وبين نفسية هذا الإنسان. وكانت النتيجة أن قام هذا الرجل يفر لائذا بكبريائه, من الحقيقة التي يلاحقه بها كتاب الله سبحانه وتعالى.
أي أن القرآن يخاطب العقل الإنساني السليم, لا العقل المتكبر, الذي يعيش في بيئات تشكوا من الفقر الثقافي بكل وجوهه ومستوياته، المائل إلى البساطة في التفكير وإصدار الأحكام القطعية، ورفض كل ما يخالف ما هو عليه، وذالك لأن بيئته، جعلت قدرته على المقارنة محدودة وهذا هو الاستثناء حيث أن الأصل " أن بني البشر يملكون درجة من العقلانية، وتلك الدرجة متوقفة على نحو جوهري على مدى حيوية الثقافة وغناها وانفتاحها، وقبل ذالك الإطار الذي تشكلت فيه.
إن مما أضر بفهمنا لمسألة نسبة الصواب والخطأ في الأفكار أننا كثيرا ما ننزع الرأي من إطاره البنيوي وبيئته الثقافية والاجتماعية، فيبدو وكأنه يستمد صوابه من ذاته وقدرته على الإقناع ، واقتناع الناس به.
وهذا حرمنا من فهم المرتكزات العميقة له، ومن فهم البرمجة الثقافية التي وفرها المجتمع لصاحبه(كما أسلفنا)(105).وجعله بالتالي أسيرا لها (106) وهذا ما وقع فيه الكثير من المفكرين والباحثين وهو ما حاولنا تفاديه وقد اكتشفنا أن الخطأ الفكري دائما يأتي من بداية البحث الخاطئة.(107) والنتيجة ستكون بطبيعة الحال خاطئة.
من هذا المنطلق لم يعد معقولا ما قاله فرعون موسى عند ما ادعى الربوبية والذي قال عنه القرآن: ﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾(108). ويوضح لنا البيان الإلهي بعد ذالك كيف أن كلام فرعون جاء بعد ذالك مغموسا بطبيعته البشرية. حيث يقول تعالى: ﴿ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان .. ﴾ (109)
هكذا يقول الله سبحانه وتعالى على لسان فرعون:﴿ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ﴾. إذن هو يتكلم كإله ثم قال: ﴿ فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا ﴾. إله ولا يجد سبيلا للوصول إلى السماء إلا الطين وأسبابه..
وهذا الفرعون أو أي فرعون آخر, في أي زمان من أي مكان, ينسى أن بشريته تكذبه بدليل أنه يدعي أنه إله, ثم يقول لهامان أوقد لي على الطين يعني:﴿ ابني لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين﴾.
وكأن الخطاب الإلهي يبين للبشرية احتياجها إليه. فالإنسان لا يتحرك ساعة إلا ويطلب أشياء لا يدري هل ستتحقق أم لا ؟ يعبر عنها " بلعل" " الرجاء".(110)
نفس الكلام ينسحب على بعض العلميين في القرن العشرين من بينهم العالم البيولوجي هيكل عند ما قال: " اعطوني هواء, وماء, ومواد كيماوية ووقتا، وأنا أصنع إنسان" .
ويرد عليه العلامة كريسى موريسون رئيس المجمع العلمي السابق بالولايات المتحدة الأمريكية متهكما بقوله" إن «هيكل» يتجاهل في دعواه الجينات الوراثية، ومسألة الحياة نفسها، فإن أول شيء سيحتاج إليه عند خلق الإنسان هو الذرات التي لا سبيل إلى مشاهدتها ثم سيخلق الجينات أو حملة الاستعدادات الوراثية بعد ترتيب هذه الذرات حتى يعطيها ثوب الحياة(111) ومن الواضح في هذا الكلام احتياج الرجل إلى المادة والأجزاء والوقت..فبالرغم من تقدم الطب في جميع فروعه وبالرغم من إبداعات العلماء في عصرنا والذين يقدمون لنا أجهزة نأخذ بالألباب وتحير العقول فإن خطابهم ما زال مثل خطاب فرعون (موسى) منذ آلاف السنين: الاحتياج و الطلب ..
ومازال يواجه نفس التحدى الذى كان يواجهه الإنسان الأول: الموت والحياة؟!