ظلت الزراعة الشغل الشاغل للعديد من مواطنينا لقرون ،حيث أسهمت منطقة الضفة بفضل سهل شمام المعطاء والحاوي علي ترب الفرتسول الخصبة والعنيدة ،بتوفير غلال تكفي غالبا لإمداد مناطق تمتد حتي الساقية الحمراء.
لقد امتهن العديد من مواطنينا الزراعة كنشاط أساسي ،
إلا أن اغلب السكان يزاولها كنشاط ثانوي كلما سمحت الظروف بذلك، الأمر الذي زاد من تراكم معارف وخبرات تقليدية سمحت باستغلال مستدام للموارد الطبيعية في بيئة هشة وقاسية.
الزراعة ما بعد الاستصلاحات المائية ألكبري
سبب جفاف عقد السبعينات من القرن الماضي تغيرات جذرية علي واقع الزراعة في بلادنا ،حيث تبنت بلادنا مقاربة شبه إقليمية ،للحد من آثار الجفاف، تمخض عنها إنشاء سدي جاما ومننتالي والحاجز الترابي علي الضفة اليمني للنهر، سعيا لتطوير الزراعة عن طريق تحويلها من صورتها التقليدية إلي الشكل الحديث ،أي التمرد علي وقع التذبذب في الهطول المطري وتتويج الزراعة المروية وإدخال حزم تقنية حديثة بهدف زيادة الإنتاج وثباته ليكون ذلك ملاذا في السنوات العجاف.
اتخذت الحكومة إجراءات مصاحبة عديدة لعل أهمها إنشاء منظومة للتمويل الزراعي هي اتحاد بنوك التنمية،كما تم إقرار قانون ينظم الملكية الزراعية ،مما سمح بإعطاء حيازات زراعية لرجال أعمال من متصيدي المال العام .
تغير المشهد الزراعي بسرعة حيث استصلحت علي عجل مساحات عديدة ،و في حالات كثيرة اكتفي المستثمرون الجدد بقطع أشجار أمور الثمينة والعتيقة وتحويلها إلي فحم ، خصوصا أن ثمنه يكمل المبالغ التي تم الاستيلاء عليها من منظومة القرض.
انهيار اتحاد بنوك التنمية
لم تصمد منظومة القرض طويلا، ففي سنوات قليلة استنزفت أرصدة البنك ،وتحولت الغابات والكثير من السهول الفيضية التي كانت تزرع تقليديا إلي أراض جرداء مدينة لدي البنوك ، لم يتحسن حال التعاونيات ولا المنتجين الصغار فلا المردودية زادت ولا التكاليف الإنتاجية انخفضت، بينما تقلصت الزراعة التقليدية كثيرا، وتحول منتجو غلال شمام إلي معدمين فأرضهم لم تعد تفيض نتيجة لسد منانتالي في أعالي النهر.
في بداية عقد التسعينات قامت الدولة باعتماد برنامج التعديل الهيكلي الزراعي، ليتمخض عنه إنشاء منظومة قرض جديدة ،سميت اتحاد تعاونيات القرض والادخار الزراعية ،سعيا إلي تصحيح الاختلالات والنهوض بالقطاع لتستمر تلك المنظومة لعقدين من الزمن دون أن تحقق النتائج المرجوة كما أن تدخلات الدولة في القطاع ظلت قاصرة وعاجزة عن دفعه نحو النمو واكتفت بأن تكون طعما لجذب المنتفعين من المال العام دون أن تتيح المجال للمستثمرين أو المنتجين الحقيقيين لأخذ زمام المبادرة في القطاع.
وكمثال علي فشل تلك التدخلات قامت الدولة خلال هذه الفترة بإنشاء منظومة لشراء الأرز، وفق جودته ونتيجة لسوء إدارة تلك المنظومة أصبح المزارع لا يجد فرقا في السعر بين الأرز الجيد والرديئي، مما دفعه للاهتمام بالأصناف قليلة الجودة ،وعدم إتباع الشروط الضرورية للحصول علي منتج جيد، كاختيار الرطوبة الملائمة للحصاد وعمليات الغربلة والتنظيف الضرورية ،كما أن أصحاب مصانع التقشير لا يحترمون أدني الشروط أثناء التقشير أو التبيض للأرز، وبالتالي تكون النتيجة أرزا رديئا يتعفن في مخازن مفوضية الأمن الغذائي.
ومن الأمثلة الاخري توفير الأسمدة بأسعار رمزية ليكتفي البعض ببيعها للسنغال دون أن يكلف نفسه عناء الإنتاج .
مرحلة صندوق الإيداع والتنمية
قررت الدولة إنشاء مظلة أو منصة لتمويل الاقتصاد الوطني ،يعهد إليها تمويل القطاع الزراعي ليشكل ذلك بداية دحرجة أحجار الدومينو فيما يعد إتباع مقاربة جديدة تتسم بما يلي:
- التوقف عن إتباع سياسات التمويل الزراعي التي كانت سببا في ظهور اختلالات القطاع وتقليل دعمه؛
- تنازل الدولة عن توفير خدمات المكننة الزراعية بعد توزيع الآليات المتهالكة علي المزارعين؛
- التوقف عن دعم المدخلات الزراعية
- التوقف عن شراء محصول الأرز
- الاستمرار في تهميش دور الإرشاد
- التوسع في عمليات الاستصلاح للمزارع القروية وان كانت تتم بصورة ارتجالية مما نجم عنه حتي الآن هدر المال العام نظرا لرداءة تلك الاستصلاحات؛
- البحث عن مستثمرين دوليين لتطوير القطاع وتوفير فرص عمل للشباب.
فرص مهدورة:
تملك بلادنا مقدرات زراعية هامة لم تستغل بعد:
- تعد ميزة الحملة الشتوية أي إنتاج خضار في فترة الشتاء فرصة كبيرة لإنتاج وتصدير منتجات الخضار لأسواق أوربا ودول المتوسط ،حيث ترتفع تكاليف الإنتاج في البيوت المحمية خصوصا إن تلك الأسواق قريبة؛
- إمكانية زراعة الأعلاف مما قد يسمح بتغير ألأنظمة التقليدية للإنتاج الحيواني وزيادة الكثيف لتثمين ثروتنا الحيوانية؛
- وجود استقرار سياسي وأراضي خصبة قريبة من أسواق أوربا والأهم مياه نهر السنغال.
لم تفلح السياسات الوطنية المتعاقبة في خلق ديناميكية حقيقية لهذا القطاع ،حيث ظل تمويله حجر عثرة بدل أن يكون رافعة للتطوير، الأمر الذي استنزف موارد وطنية معتبرة أدت لارتفاع مديونية البلاد.
تعد المقاربة الحالية الساعية لوقف الهدر الغير مبرر أمرا جيدا لكنها لم تتبلور بما فيه الكفاية فلا نعرف كيف ستتم اعداة توجيه تلك الموارد بما يخدم النمو السليم للقطاع .
سبل تطوير القطاع
يمر تطوير القطاع بما يلي:
- تشجيع الاستثمار مما قد يسمح بجذب مستثمرين كبار الأمر الذي سيوفر تنمية حقيقية ونقل للمعارف وتوفير لفرص العمل؛
- الاستمرار في دعم التعاونيات والمنتجين الصغار بآليات تحفيز واعية؛
- إنشاء مؤسسة لتسويق منتجات الخضار علي غرار شركة تسويق الأسماك لتحفيز المنتجين الوطنين ؛
- تشجيع زراعة الأعلاف لتواكب عمليات التحسين الوراثي لقطعان الماشية؛
- تصحيح اختلالات قانون الإصلاح العقاري؛
- إنشاء ديوان لتثمين الزراعة التقليدية واعدة الاعتبار لها.
إن إعادة هيكلة منظومة التمويل سيساهم في غربلة فاعلي القطاع بحيث سيتم الفصل بين الفاعلين الحقيقيين وطبقة الطفيليين التي تثقل كاهله ،كما ستسمح في إعادة توجيه الموارد بما يحفز العملية الإنتاجية.
سيبقي قطاع الزراعة حبيس السياسات العمومية ،كما كان دائما ويبقي السؤال: هل ستنفض الدولة يديها مما سيسب كارثة وطنية؟ أم أنها ستواصل سياساتها السابقة والتي لا تلائم سوي انتشار الفطور؟،أم أنها ستعيد هيكلة القطاع بما يسمح بإنشاء منصة انطلاق متينة و حقيقية وفي انتظار تبلور تلك السياسة ليس لنا إلا حبس أنفاسنا أملا غد أفضل .