تعد الزراعة محرك التنمية الأساسي في البلدان النامية ،لما تلعبه من ادوار اقتصادية واجتماعية وبيئية، لذلك سعت معظم دول العالم النامي إلي إعطائها المكانة التي تستحق ،ولم تشذ بلادنا عن هذه القاعدة.
اتسمت السياسات الزراعية المتبعة حتي 1998 بالضعف وقلة وضوح الرؤية ،حيث افتقرت إلي إستراتجية وطنية شاملة
وناظمة لكافة الجهود المبذولة في القطاع ،كما أن غياب إطار واضح لمحاربة الفقر و إستراتجية للأمن الغذائي زاد من تشتت الجهود مما انعكس سلبا علي أداء القطاع.
تم اعتماد أول إستراتجية وطنية زراعية سنة 1998 ، لتراجع سنة 2001 لمواءمتها مع الإطار الاستراتجي لمحاربة الفقرCSLP وليعاد تقيمها سنة 2007 .
بقي أداء القطاع الزراعي ضعيفا رغم ذلك ،حيث ظل كالثقب الأسود يبتلع كل التمويلات،اتسمت هذه المرحلة باختلالات كبيرة فالمشاريع التي يفترض أن تكون أداة لتحقيق الإستراتجية، تتحول هي نفسها إلي موجه للإستراتجية و خير دليل علي ذلك برنامج التنمية المندمجة للزراعة المروية PDIAIM .
الإستراتجية الزراعية الحالية
تعد الإستراتجية الحالية مظلة لأفق 2020 وتهدف لجعل الزراعة الوطنية منتجة ومنافسة ومستدامة وترتكز علي المحاور الخمسة التالية:
• النهج الليبرالي؛
• اعتماد مقاربة الشعب؛
• دمج القطاع في الأسواق الوطنية والدولية؛
• تطبيق التكنولوجيات الحديثة؛
• التنمية المندمجة و التشاركية.
تم اعتماد خطة عمل طموحة لثلاث سنوات ستنتهي عام 2017 وتحدد تلك الخطة الأهداف المتوخاة وسبل تحقيقها ،كما تعطي تصورا كافيا للحكم علي مدي نجاعة الإستراتجية المتبعة.
لم تستجب الإستراتجية الزراعية الحالية لاحتياجات القطاع ،حيث فشلت في احترام ابسط القواعد المتبعة في صياغة وتصور الاستراتجيات الزراعية وقد اتسمت بما يلي :
الضبابة وضعف الارتكاز
فشلت الإستراتجية الحالية علي غرار الاستراتجيات السابقة في عملية الارتكاز ،فهي لا تفرق بين نوعين من الزراعة يختلفان اختلافا جذريا ،فالزراعة التقليدية والزراعة المروية القروية نمط زراعي اجتماعي بيئي يلعب أدوارا هامة ،ويحتاج إلي دعم شامل ومستمر ،ويجب أن لا يخضع لقوانين الليبرالية سواء المتوحشة أو الرحيمة ووصاية وزارة الزراعة عليه يجب أن تكون فنية فقط.
أما الزراعة المروية الخصوصية (مستثمرين وطنيين أو أجانب أو شراكة)فهي نمط زراعي استثماري يخضع لمتطلبات وقوانين الاستثمار الزراعي المتعارف عليها ،والخلط بين النمطين يعد قُصر نظر بَيِّنٌ.
غياب العدالة
يُقصد بالعدالة تحقيق التوازن ما بين القطاع وبقية القطاعات الأخرى، تبعا لإسهاماتها وهو ما لم يتحقق ،كما أن العدالة تعني أيضا توفير الفرص المتكافئة لتشمل كافة شرائح وفئات المنتجين، فالإستراتجية لا زالت تركز علي الزراعة المروية، مما يقصي الشرائح الهشة ،فاعتماد مقاربة الشٌعب بطريقة غير احترافية يزيد من إقصاء الطبقات الهشة ،فمثلا يتدخل برنامج دعم الشٌعب لمحاربة الفقر أساسا في الواحات ،بينما لا يعد مُلاك الواحات من أكثر المنتجين فقرا ،كما أن العاملين غالبا ما يكونون أُجراء.
قلة الواقعية
لعل من أهم أسباب ضعف الإستراتجية الحالية قلة واقعيتها ،فمن المعروف بان تصور أي إستراتجية يعتمد أساسا علي تحديد نقاط قوة وضعف القطاع ،حيث اعتمدت الإستراتجية للأسف بيانات وإحصاءات غير دقيقة لتضع أهدافا انطلاقا من وضعية لم تتحقق أصلا ،فالحديث عن متوسط إنتاجية للأرز يساوي 4.6 طن للهكتار لسنة 2015 والذي سيصبح 5.5 سنة 2017 ،أمر غير دقيق وكل العاملين في القطاع يدركون عدم دقته ،كما أن كل الإحصائيات الزراعية المتعلقة بالزراعة المطرية مغلوطة للأسف الشديد ،فالإنتاج المتوقع من الحبوب في الزراعة المطرية سيصل حسب التوقعات إلي ما يزيد علي 200000 طنا في سنة 2017 ،في حين أن الجميع يعلم أن وسائل الإنتاج في الزراعة المطرية في بلادنا لم تتغير منذ عصور ،ولازالت تتم بوسائل بدائية ولا تقدم الإستراتجية حلولا مقبولة لتطوير أداء هذا النمط الزراعي ،فتذكر مثلا أن تيني مبتكرات البحث ضعيف، في حين لا يوجد البحث أصلا ليبتكِر.
تركز الإستراتجية علي الشراكة ما بين القطاعين العم والخاص ،في حين أنها لا تضع آليات كافية لتحقيق شروط الاستثمار الخاص، فمشروع الراجحي لزراعة مائة ألف هكتار أُجهض بسبب مشاكل الولوج للأرض، فلحد الساعة وبالرغم من قانون الإصلاح العقاري ،لا زالت الملكية التقليدية هي صاحبة الكلمة العليا ،خصوصا في زمن المطالبات الاجتماعية ،فكيف يمكن تطوير الاستثمار إذا لم تحل المشكلة العقارية،كما يعطي برنامج العمل موعدا لإنتاج 106000 طنا من السكر سنة 2017 مما يعكس قلة واقعية الإستراتجية عموما.
ضعف الكفاءة
تشمل الكفاءة حسن مراعاة الجدوى الاقتصادية والميزة التنافسية ،ودقة ومصداقية الدراسات ،ومتابعة تنفيذ المشاريع، الأمر الذي يسبب غالبا فشل العديد من الاستصلاحات فتعثر شق قناة لتوفير مياه ري بطول 55 كلم لري 16000 هكتارا خير دليل وكل ذلك بسبب إهمال دراسات ما قبل التنفيذ،كما أن إدخال زراعة القمح و البطاطا يعد تجاهلا للميزة التنافسية، في حين أن الإصرار علي زراعتهما في ظل النتائج الكارثية يفرغ الإستراتجية من ميزة التحيين الضرورية لتقويم أي إستراتجية.
قلة التمثيل:
لكي يُكتب النجاح لأي إستراتجية لا بد أن تكون تشاركية ،حيث تجيب علي سؤالين هامين :من سينفذها ؟ومن المستفيد منها ؟ ،وتعد مشكلة تمثيل المنتجين عائقا كبيرا ،نظرا لضعف تمثيل المنظمات السوسيو_مهنية الزراعية للمنتجين الحقيقيين، والفوضى العارمة في النسيج التعاوني الوطني.
تَعتبر الإستراتجية الزراعية الحالية أن من نقاط قوة القطاع وجود إرادة سياسية قوية داعمة له ،وهو تشخيص سليم، لكن تلك الإرادة تفرغ للأسف من فعاليتها ،بسبب إتباع سياسات مغالطة ،تحجب الحقائق ،وتكرس مبدأ المزاد في تحقيق الانجازات، فكل خطة تضع رقما جزافيا، ويكون علي الخطة الجديدة أن تتجاوزه في لعبة أرقام عبثية، تشبه إعلان إسقاط الطائرات بين إيران والعراق، إبان حرب للخليج الأولي ،حيث تجاوز العدد المعلن أضعاف عدد طائراتهما، ليتأقلما بسرعة،ويستخدمان مصطلح هدف جوي بدل طائرة!.
ويبقي السؤال المطروح هل سنواصل التأقلم، أم أننا سنراجع السياسات الزراعية المتبعة،بما يشكل قطيعة مع ارث قديم يعيق أداء قطاع حيوي وهام .