لا مناص ولا مفر من الاعتراف أن دعوة المرابطين التي احتضنتها شواطئ موريتانيا وترعرت بربوع صحاريها حوالي منتصف القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي 448 هـ 1070م, كانت فتحا سيعد فيما بعد من أعظم الفتوحات أثرا وصدى في تاريخ الإسلام بالمنطقة ومحيطها ب,ما في ذلك
إفريقيا جنوب الصحراء, وحتى منابع نهر صنهاجة .
ولا ريب أن رعيل رجالات الدعوة المؤسسين كانوا رعيل صدق وبر ووفاء وإيمان أجلة . وفي قبائل صنهاجة التي أعطت اسمها للنهر الإسلامي الخالد, النهر الجامع, كان محتد وانتماء رجالات الرباط والدولة في المجمل, تلك الدولة المركزية "الموريتانية " الأولى, إنجاز التعبير, التي دانت لها إفريقية والمغرب, أوسطا وأقصى ,والأندلس , أي شمال إفريقيا برمته, وجنوب أوروبا على وجه التقريب, في أقل من عقدين من السنين, والتي عرفت بدولة الملثمين ,الذين يقول شاعرهم :
قوم لهم شرف العلى من حمير فإن دعوا صنهاجة فهم هم
لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثم
الجوهر لجدالي مؤسس الرباط
وكان من عديد كوكبة الأجلة المؤسسين أولئك , دعوة ودورا ورباطا ,رجل صدق من الأخيار ممن صانوا الدين بالصحراء, حيث أورد ذكره مؤرخون ثقات في معرض حديثهم عن دولة الملثمين وأفاضوا , والأمر هنا يتعلق بأحد أهم رجالات الدعوة المرابطية وهو "الجوهر لجدالي" الذي كثيرا ما أغفله أغلب المهتمين قديما وحديثا ,وهو ما يعد من وجهة نظري ظلما فادحا وجحودا لا مبرر له , إذ انه من المفروغ منه أن السبب الجوهري لنشأة الدعوة والرباط في هده الثغور, بعد مشيئة الله تعالى كان بفضل هذا الرجل وتصميمه , خلال حجه المبرور ,الذي سيصطحب فيه الجوهر إمام الدعوة وصاحب الجمل المنوه به, الذي سيبين الطريق والمحجة .
وإن ظلم التاريخ وغمط صاحبنا حقا لا ينازعه فيه غيره, فلن يغير ذلك من الأمر شيئا ,إذ وكما هو معروف فإن الجوهر لجدالي وهو في تطلبه للحج توجه إلى إفريقية ( تونس الحالية ) وبمروره بالقيروان أكتشف وأثناء إلمامه بالفقهاء والمشايخ القرويين وعن كثب, واختلاطه بالدارسين ,البون الشاسع بين شرائع الدين الصحيحة وبين ما يعيشه بالفعل أبناء صحراء الملثمين في ذلك الوقت , وهو ما دعاه إبان منصرفه من الحج عود على بدء إلى الاجتماع بالشيخ أبي عمران الفاسي أحد مشايخ القيروان المذكورين ,علما وهمة وصلاحا وطلبة, عله يطلع الشيخ الجليل على افتقار أهل الصحراء إلى من يقيم لهم أمر الدين ويعلمهم الشرائع والأحكام , وهو طلب تلقاه الشيخ بالقبول وفورا من دون تردد, اختار له إماما الفقيه عبد الله بن ياسين وبعثه معه معلما وداعيا .
ولنستمع لبعض حديث المؤرخ الإمام ابن الأثير , ولعله خير من يرجع إليه من أصحاب الشأن:
"في هذه السنة 448 هـ كانت ابتداء أمر الملثمين وهم من قبائل ينسبون إلى حمير أشهرها : لمتونه ومنها أمير المسلمين ...وجدالة ولمطة , فلما كان هذه السنة توجه رجل منهم اسمه الجوهر من قبيلة جدالة إلى إفريقية طالبا للحج , وكان محبا للدين وأهله فمر بفقيه بالقيروان وعنده جماعة يتفقهون : قيل هو أبو عمران الفاسي في غالب الظن فأصغى الجوهر إليه وأعجبه حالهم , فلما انصرف من الحج قال للفقيه ما عندنا في الصحراء من هذا شيء غير الشهادتين والصلاة في بعض الخاصة , فابعث معي من يعلمهم الإسلام , فأرسل معه عبد الله بن ياسين الكزولي وكان فقيها صالحا شهما فسار معه حتى أتيا قبيلة لمتونة فنزل الجوهر عن جمله وأخذ بزمام جمل عبد الله بن ياسين تعظيما لشريعة الإسلام فأقبلوا إلى الجوهر يهنئونه بالسلامة وسألوه عن الفقيه فقال : هذا حامل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء يعلمكم ما يلزم في دين الإسلام فرحبوا بهما وأنزلوهما وقالوا تذكر لنا شريعة الإسلام فعرفهم عقائد الإسلام وفرائضه فقالوا : أما ما ذكرت عن الصلاة والزكاة فهو قريب, وأما قولك من قتل يقتل ومن سرق يقطع ومن زنى يجلد أو يرجم فأمر لا نلتزمه أذهب إلى غيرنا >> .
فرحلا عنهم ، فنظر إليهما شيخ كبير فقال : " لابد وأن يكون لهذا الجمل في هذه الصحراء شأن يذكر في العالم" فانتهى الجوهر والفقيه إلى جدالة قبيل الجوهر فدعاهم عبد الله بن ياسين والقبائل الذين يجاورونهم إلى حكم الشريعة فمنهم من أطاع ومنهم من أعرض وعصى .
ثم إن المخالفين تحيزوا وتجمعوا فقال ابن ياسين للذين أطاعوا قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الذين خالفوا الحق وأنكروا شرائع الإسلام واستعدوا لقتالكم فأقيموا لكم راية وقدموا عليكم أميرا .فقال له الجوهر : أنت الأمير فقال : لا, إنما أنا حامل أمانة الشريعة, ولكن أنت الأمير, فقال الجوهر لو فعلت هذا تسلط قبيلي على الناس ويكون وزر ذلك علي .
فقال له ابن ياسين الرأي أن نولي ذلك أبابكر بن عمر رأس لمتونه وكبيرها وهو رجل سيد مشكور الطريقة مطاع في قومه, فهو يستجيب لنا لحب الرئاسة وتتبعه قبيلته فنتقوى بهم , فأتيا أبابكر بن عمر وعرضا ذلك عليه فأجاب فعقدوا له البيعة .
ومن المفارقات التاريخية وعجيب ما يذكر من أمور الاتفاق والقدر, أن نهاية الجوهرلجدالي, ستكون على يد رفيقي دربه عبد الله بن ياسين والأمير أبي بكر بن عمر, متهما بشق عصا الطاعة .. فقتل صبرا رابط الجأش بعد أن صلى ركعتين .