نشرت صحيفة الغارديان The guardian مقالا هذا الأسبوع ،يعالج مشكلة غرق مدينة نواكشوط ،ويبين المقال بشكل لا لبس فيه السبب الرئيسي لتفاقم تلك المشكلة، حيث يُشير بإصبع الاتهام إلي غياب الصرف الصحي، مما سبب ارتفاع منسوب الماء الأرضي، الأمر الذي كنت أكدت عليه في مقال( نواكشوط عاصمة تطفو) ،
والذي نشر قبل سنة، في حين أن صُناع القرار حاولوا منذ ظهور المشكلة التأكيد علي أنها تعود لتأثير التغيرات المناخية ،وتسرب مياه البحر وتآكل الحاجز الترابي، وهذا التفسير يُجنبهم المسؤولية ويعفيهم من إيجاد الحل ،لان التغيرات المناخية يتم العامل معها بمقاربة عالمية ،ولا يمكن لبلد بمفرده حلها ،وتأكيدا لذلك فلم تنشر نتائج أي من الدراسات الاستقصائية التي قام بها باحثون دوليون تم استجلابهم في السنوات الماضية علي نفقة الدولة الموريتانية، علما أن المشكلة واضحة وجلية ويكفي مشاهدة نبات Thypha في مستنقعات نواكشوط للتأكد من الماء لا يعود للبحر .
مقال نواكشوط عاصمة تطفو
بدأت في السنوات الأخيرة مظاهر أقلقت ساكنة نواكشوط تمثلت في انتشار المستنقعات ،وغرق أجزاء كاملة من بعض الأحياء ،كما أجبرت البعض علي مغادرة منازلهم ،وتفاقمت المشكلة لتنخفض أسعار العقارات في مناطق عديدة ،وأصبحت مشاكل تفريغ حفر الصرف الصحي تثقل كاهل السكان ووصل الأمر لحد انتشار حشائش التيفا في سوكوجيم أمر لا يصدق..!.
ما ذا أصاب عاصمتنا ،فالأمطار ليست أمرا جديدا ،يتحدث البعض عن علاقة ذلك بالتغيرات المناخية وارتفاع منسوب البحر لكن ساكنة نواكشوط قلقون بل يحبسون أنفاسهم في انتظار قادم الأيام.
جذور المشكلة
شيدت نواكشوط عام 1957علي شريط من الكثبان الرملية يبعد عن شاطئ المحيط 5 كم ،ويعلو امتداد منخفض افطوط الساحلي، وهي مجموعة سباخ وبالرغم من ذلك فقد كانت نواكشوط تملك نظام صرف صحي مزود بمحطة معالجة تسمح باستخدام مياه الصرف لري مزارع خضار في غرب العاصمة.
إلا أن سنوات الجفاف في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ،وما صاحبها من تقلبات اجتماعية سببت ضغطا علي المدينة لتتحول من عاصمة يسكنها اقل من 6000 نسمة قبل عام 1962 إلي مدينة مترامية الأطراف يسكنها ما يناهز المليون جزء كبير منهم استقر في امتداد منخفض افطوط الساحلي.
إن هذا العدد الكبير من السكان، والذي استقر في مناطق لا تصلح للسكن ولا تحوي شبكة صرف تخلص المدينة من المياه العادمة والفائضة أوقع المدينة للأسف في مشكلة قديمة قدم الإنسان مشكلة كانت سببا في انهيار حضارات نعرف أنها سادت ثم بادت.
نقرأ من التاريخ حديثه وقديمه أن ديمومة أي منظومة مرهون أساس بأمرين أولهما إمكانية التزود المستمر بالمدخلات ،وثانيهما إمكانية التخلص المستمر من العوادم وهو ما فشلت نواكشوط في تحقيقه وستدفع ثمنه غاليا.
فانهيار حضارة بلاد الرافدين جاء أساسا بسبب التملح الثانوي الناتج عن الري بمياه مالحة مما اخرج الأراضي من الاستثمار الزراعي،والمشكلة هنا عدم القدرة علي التخلص من الملح الزائد.
بحيرة اديني تحت أقدامنا
احتاج هذا العدد الكبير من السكان للماء عصب الحياة ،فاستجلبت الدولة مياه بحيرة جوفية حفظت لآلاف السنين تحت مرشحات الرمل الطبيعية ،مياه رقراقة عذبة، تم جلب ما يزيد علي 400 مليون متر مكعب خلال عمر استغلالها، نجحت المنظومة في التزود بالمدخلات لكنها فشلت في التخلص من العوادم ،هذا الكم الهائل من الماء تغلغل إلي بنية تربة مالحة أصلا و ذات مستوي ماء أرضي قريب جدا فارتفع منسوب الماء الأرضي خصوصا في المناطق المنخفضة وهو ما سبب تآكل جدران المباني بسبب صعود الماء المالح ، وتشكل المستنقعات الدائمة خصوصا عند تهاطل الأمطار فالتربة تشبعت بالكامل، ونواكشوط تطفو فوق مستنقع من الماء المالح وكلما ارتفع منسوب الماء كلما ظهر ضحايا جدد وبإجراء مسح طبوغرفي بسيط يمكن لكل حي أن يتوقع بدقة موعد مغادرة الحي.
افطوط السحلي يفاقم المشكلة
ظل حلم تزويد نواكشوط بمياه الشرب من نهر السنغال يراود صناع القرار لما يزيد علي ثلاثة عقود ،وأخيرا نفذ المشروع وسمي افطوط الساحلي لسخرية القدر، فلمن لا يعلم فافطوط الساحلي منخفض سباخ يمتد من نهر السنغال جنوبا إلي نواكشوط شمالا لا يفصله عن المحيط سوي شريط من الكثبان الرملية وقد كان قبل بناء سدي جياما ومنتالي يفيض بمياه النهر حتي انه وصل لكصر عام 1950 وقبل ذلك عامي 1932 و1890 ،وتربته ذات ماء ارضي قريب وبنية هشة قوامها الملح لا تصلح للإنشاء العمراني العادي إلا أن أغلب أحياء نواكشوط بنيت عليه رغم ذلك.
يزود مشروع افطوط الساحلي نواكشوط الآن بما يناهز 170000 مترا مكعبا يوميا (ما يعادل هطولا مطربا سنويا قدره 517 مم ) أي أربعة أضعاف ما كانت اديني تضخه والذي يقدر ب 42000 متر مكعب يوميا وهذا ما سيفاقم مشكلة نواكشوط فان كانت المدينة طفت بفعل مياه اديني فإنها وببساطة ستغرق مع افطوط الساحلي.
مخاطر أخري
قدر نواكشوط أن تكون محفوفة بالمخاطر، فتكفيها مشكلة ارتفاع منسوب الماء الأرضي، ومع ذلك فهي معرضة لمخاطر أخري فنواكشوط من أكثر المدن الشاطئية عرضة للتقلبات المناخية فارتفاعها عن مستوي سطح البحر شبه معدوم،كما أن الحاجز الرملي الطبيعي تأكل مما قد يحمل مخاطر علي المديين المتوسط والطويل، إذا لم تحل مشكلة ارتفاع درجات حرارة الأرض، كما أن الانجراف الناتج عن بناء ميناء الصداقة تحد أضافي.
أخطاء جسيمة
يصعب علي المرء أن يتصور أن من يجلب ملايين الأمتار المكعبة لتربة ضعيفة النفاذية، لم يفكر يوما في كيفية التعامل مع تلك المياه، خصوصا أن ذلك امتد لفترة أربعين سنه وبدل حل مشكلة الصرف الصحي تم نقل مياه النهر لزيادة وتيرة تفاقمها ويعود ذلك في الأساس إلي ضعف التخطيط المركزي والتعامل مع المشاكل بمقاربة قطاعية مجتزأة.
سيناريوهات الحل
السيناريو الأول بناء عاصمة جديدة علي أسس عمرانية سليمة وإيجاد حلول لبعض أحياء نواكشوط،كإقامة مصارف عمودية وهي آبار يخفض فيها الماء الأرضي نتيجة الجريان تحت السطحي ليضخ خارج المدينة؛
السيناريو الثاني إنشاء شبكة صرف صحي وهو استثمار محفوف بالمخاطر لتكلفته العالية والإرباك الذي سيسببه بالإضافة إلي صعوبة صيانته نظرا للامتداد الأفقي للمدينة.
وفي انتظار تجرع احد السيناريوهين المرين تبقي نواكشوط تطفو.