كان يفترض بمحاوري الأغلبية أن يتركوا مسألة "المأمورية الثالثة"عند بوابة قصر المؤتمرات وألا يتطرقوا لها أبدا، هذا ما كانت توحي به كل "الوشوشات" القادمة من القصر الرمادي، لكن يبدو أن من بين أولئك المحاورين من فضل أن يصطحبها خفية داخل حقيبته إلى قاعات النقاش.
ومع ذلك يمكن الجزم بأن طرح "المأمورية الثالثة" خلال جلسات حوار أكتوبر، لم يأت وفق إستراتيجية مرسومة من طرف النظام، وإلا لكان أصر على إدراج هذه النقطة ضمن بنود الحوار، وإنما جاءت هذه الفرقعة من أجل سد الطريق أمام المقترح المتعلق بفتح سن الترشح للانتخابات الرئاسية.
على العكس تماما، تشي كافة المعطيات بأن النظام قد حسم أمر المأمورية الثالثة منذ بعض الوقت، حيث بات واضحا من خلال تصريحات الرئيس ورجالات الصف الأول، أن ولد عبد العزيز سيكتفي بمأموريتين دستوريتين فقط ولن يترشح للرئاسيات القادمة.
لكن الرجل الذي يفترض أنه سيخرج من القصر الرئاسي ذات يوم من أغسطس 2019، يفترض أيضا وبنفس الدرجة، أنه لن يبتعد عن الحلبة السياسية الوطنية إلا بقدر المسافة الفاصلة بين القصر الرمادي والسراي الحكومي.
فمن غير الوارد أبدا، أن يكون ولد عبد العزيز قد عبر صراحة عن عدم نيته الترشح لمأمورية ثالثة ثم أطلق نسخة 2016 من الحوار الوطني في وقت استهلك فيه نصف مأموريته الأخيرة، دون أن يكون الرجل قد وضع اللمسات النهائية على مسودة سيناريو 2019.
ورغم أن هذا السيناريو يبقى ضمن حدود الفرضيات، إلا التطورات الأخيرة في المشهد السياسي وإعادة ترتيب البيت الداخلي للنظام التي يجري الحديث عنها، تؤكد أن تلك الفرضيات باتت أقرب إلى الحقيقة منها إلى الخيال السياسي وأنه حتى وإن كان من الصعب أن نرى هذا السيناريو اليوم رأي العين، إلا أن رائحته أصبحت تزكم الأنوف.
لقد بات واضحا أن الرجل الذي اختاره ولد عبد العزيز ليخلفه في القصر الرمادي عام 2019، طبقا لهذه الفرضيات، هو صديقه المقرب وصندوقه الأسود الوزير الأول السابق مولاي ولد محمد لغظف، وأن الرجل سيكون مرشح الأغلبية الحالية للرئاسيات القادمة، إلا إذا حدث وخرج الدكتور عن النص أو ارتكب خطأ فادحا قبل هذا التاريخ وهو أمر مستبعد للغاية، لأن ميزة ولد محمد لغظف الأساسية هي قدرته الفائقة على السير داخل حقول الأشواك والألغام واجتيازها بنجاح.
يقضي السيناريو بأن يتولى ولد عزيز منصب الوزير الأول مع صلاحيات واسعة، وهذا ما يفسر جزءا من إصرار الرجل على الحوار الحالي والانتخابات التشريعية المبكرة وإلغاء مجلس الشيوخ، حتى تكون الأغلبية البرلمانية واضحة المعالم ومنسجمة قبل رئاسيات 2019 وحتى يتعاطى الرجل معها وهو لا يزال على دكة الرئاسة.
يقضي السيناريو كذلك بأن تشكل الصلاحيات الواسعة لولد عبد العزيز كوزير أول، بداية تمرين وطني شامل على النظام البرلماني، حيث من المتوقع أن يكون الإصلاح السياسي الأكبر الذي سيميز المأمورية الرئاسية (19-24)، هو الانتقال من النظام الرئاسي إلى البرلماني وسيساعد على هذا الأمر ابتعاد أسماء عرفت بتشبثها الكبير بالنظام الرئاسي عن المشهد تحت وطأة السن.
ولعل هذا الجانب من سيناريو 2019، هو ما يفسر إصرار الرئيس على إنشاء مجالس جهوية للتنمية خلال النفس الأخير من مأموريته الرئاسية الثانية، إذ يفترض بهذه المجالس أن يكون لها هي الأخرى دور محوري في التمرين الوطني على النظام البرلماني.
تلك هي الملامح العامة المفترضة للطبعة الأولى من سيناريو 2019، التي طبخت على نار هادئة في الحديقة الخلفية للنظام خلال الفترة الأخيرة الماضية، لكن من البديهي أن هذا السيناريو يبقى رهين ساحة سياسية وطنية متقلبة المزاج والأحوال، يصعب توقع اتجاهات رياحها الموسمية وما إذا كانت تلك الرياح ستتحول إلى أعاصير قد تجبر النظام على إعادة النظر في طبعته وتنقيحها.