إليك من ابنك الذي طالما ناديته بهذا اللقب(يا ابني)أبعثها نصيحة في العلن وأنا أعلم أن نصيحة العلن تشهير وأن نصيحة السر خير، ولكن ـ أتذكر يا أبتاه ـ سبق أن نصحتك سرا ونحن في أروقة المعهد أيام كانت الدولة لغير رئيسك الآن والوزارة لغير وزيرك الآن والإدارة ليست بيديك كما الآن.
أتذكر حين كنت تفتل في الذروة والغارب تريد مني أن أتحرف عن "نضال"مشروع وأن أتحيز"للسلبية"أيام إضراب مشهود، ألم أقل لك إن الدهر قلب وأن الأيام دول وأن الرابح من وقف مع الحق أو استحيا من ضعفه فستر نفسه بعيدا عن مناصرة الباطل، أتذكر حين قلت لك في مزحة أشبه بالجد إن موقفي منسجم مع مواقف أسلافنا الذين تركوا لنا سمعة طيبة في كل أرجاء هذا المنكب البرزخي عمادها الخلق الرفيع وإنكار المنكر والحرص على العلم، وأجبت في جد أشبه بالهزل أن الدولة أقوى من أن يعارضها فرد وأنه خير لي أن أستكين وأترك ما أنا فيه، لكن ذلك شجن آخر. أبتاه ـ وسأظل حريصا على ندائك بهذا اللقب ـ هذه نصيحة ابن مشفق عليك لحق القرابة وحق الأبوة وحق عشيرة لها سمعة طيبة نستروح جميعا ظلالها بين العالمين، ونحزن جميعا إن مسها الضر أو خدشت بسوء، قد لا تسمع هذه النصيحة لأن هزيم القنابل المسيلة للدموع يحيط بك وبكاء بنات الأكارم يصخ أذنيك، لكن لعل أحد المخبرين الذي يجوسون بين يديك ومن خلفك يحمل هذا الرسالة إليك فيكفر الله من خطاياه بوشايته هذه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. أبتاه..وا أبتاه قد تنكر علي أو ينكر آخرون أن أبعث لك هذه الرسالة أو أكتب عنك هذه الكلمات، وأنت أبي وشيخي وابن عمي الموقر، وكل ما قلته أو قالوه عن أبويتك لي و مشيختك وعمومتك حق لا ريب فيه، ولكن ألا يحق لي أن أقول لك يا أبت لا تعبد الشيطان ولا تتبع خطى جنرال مغرور، يا أبت إني أخاف أن تمسك لعنة من التاريخ يقرن فيها اسمك بآل فلان ـ وأنا منهم ـ فيصيبهم بعض ما أصابك ـ لا قدر الله ـ. أبتاه..أتظن أن العالم الطالب أحمد بن محمد راره والشيخ سيد عبد الله بن أبي بكر والمجاهد افاه بن الشيخ المهدي وغيرهم وغيرهم من أسلافنا وآبائنا يرضون عن موقفك ويقرونك على ما أنت فيه! أوقن أن لو كانوا أحياء لجمعوا رجال الحل والعقد وقادوا إليك خيارهم لينصحوك أو يوقفوك قبل أن تدنس سمعة العشيرة بأفاعيلك. أبتاه..وا أبتاه أترضى أن يسجل التاريخ الذي لا تمحي صحائفه أن رجلا من بني فلان كان مديرا للمعهد العالي أيام إدبار دولة الجنرال هو أول من سحبت وعذبت طالبات موريتانيات بأمره وتحت سمعه وبصره، وأنه كان وكان..وكان اليد التي يبطش بها رئيس يعيش أخريات أيامه. أتعلم أن الأمن الموريتاني لم يجترأ ـ رغم تاريخه السيئ ـ على لمس الطالبات ودفعهن بالأيدي أحرى حملهن كالخراف وضربهن كغرائب الإبل. أبتاه...هل سمعت صرخات الأخت الطاهرة الصابرة عيشة بنت أبوبكر وهي محمولة بأيدي شرطة أنت من أمرتهم بذلك؟ وهل حركت كوامن الفطرة في نفسك دمعات الأخت العفيفة المؤمنة سلمها بنت أحمد جدو وأنت أحد أوليائها بالنسب، هل سمعت نحيبها تحت هراوات وسياط جلادين نفذوا أوامرك بعد تردد، وتجاسروا لما رأوا منك الجد في الفضيحة..وأخريات وأخريات. أظنك لا تعرف عنهن إلا ما أخبرك به وزيرك أو أنبأك عنهم مخبروك، إنهن ـ يا أبي ـ بنات الدعوة التي كان عليك أن تكون أحد آبائها، قانتات تائبات صائمات سائحات، وفتيات الذود عن الحق الذي تحاول وزارتك لبسه بالباطل، هن اللواتي كن يقمن حلقات النصح والتذكير حفظا لدور تخليت أنت ووزيرك عنه، إنهن ـ يا أبي ـ أطهر من الشبهة وأنقى من الافتراء، كل منهن: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل أبتاه..لو لم أسمع بأذني وأشهد بأم عيني لأنكرت المقالة وقلت (سبحانك هذا بهتان عظيم)، أما وقد سمعت أذناي ورأت عيناي وعقل قلبي فليس لدي ما أقوله لك سوى إني لعملكم من القالين ولتصرفاتكم من المنكرين، فقد أهلكت نفسك وأهلكت قومك. ذلك أني شهدت أياما ـ وأنت شهدتها معي ـ في المعهد كانت الإدارة بيد من كنت أظنه أسوأ منك سيرة وأقل رشدا، وكان الاحتقان أقوى والنظام أشر، ووالله ما كشف لطالبة ستر وما لمستها هراوة شرطي وما خطر له ذلك ببال، ألا رحم الله الحجاج ما أعدله وأكثر نبله وشهامته. أتعلم أن أمرك للشرطة بالإجهاز عليهن سحبا وضربا ووصمك لهن بأنهن (لسن نساء)إجهاز منك على رجولتك وإعلان براءة من شهامة متوقعة في أمثالك من آل فلان. أترضى أن يكتب مؤرخ موريتاني أن مؤسسة المعهد العالي أغلقت في أيامك وأهين طلبتها في عهدك وديست كرامة بناتها بأمرك، لا بارك الله في منصب يودي بصاحبه إلى ما وصلت إليه. وإذا كنت لا تأبه بمسبة الدهر وشؤم العاجلة ألا تخاف الآجلة؟ ألا تخشى أن يجيء طلاب المعهد يوم القيامة يمشون بجراحهم في سبيل حماية صرح علمي وطالباته ترفلن في صبرهن على إيذائك وتأتي أنت تحمل على ظهرك وقر إغلاق مؤسسة شرعية كالمعهد العالي وقد خاب من حمل ظلما. أبتاه.. وا أبتاه يحز في نفسي أن خدعتك زمرة تريد أن تحرقك وتذروك رمادا اشتدت به الريح غير آبهة بمستقبلك ولا مهمومة بسمعتك، حسبها منك أن تفعل ما همت به من سوء وأن تقول ما أضمرت من ضغينة، إياك إياك..إنهم يدفعونك لتهوي في مكان سحيق، ثم لن تجد منهم نصيرا حين يرمي بك التاريخ خلف ظهره مكتوبا عليك سبته إلى يوم الدين. سيقولون لك آونة إن الرئيس يعول عليك ويشيد بك، وأحايين إنه غضب من تقصيرك وشك في ولائك، وسيقولون لك إن الشرطة تحت أمرك والجواسيس قيد إشارتك، بل سيقولون إنك إن نجحت في مهمتك هذه ستخول مناصب أعلى ومقاما أرفع، ولكن هيهات! لست أول من دلوه بغرور وقاسموه إنا لك من الناصحين ثم خذلوه ناكصين وتركوه للعنة التاريخ ومغامز الناس. أبتاه..وا أبتاه كنت أظن خمسة عقود كافية لنضج قريحة وكمال عقل، بل كنت أوقن أن معاشرة إدارات وطلبة وعمال المعهد العالي زهاء عشر سنين كفيلة بأن تحجز صاحبها عن خبال الرأي وفساد الاعتبار. أتظن ـ يا أبت ـ أن المعهد العالي يمكن أن يغلق بقرار رئيس تأسس قبل أن يبلغ سن الرشد ـ إن كان بلغها بعد ـ، أتصدق أن طلبة المعهد المعرقون نسبا في الاحتجاجات الطلابية الناجحة ستهزمهم حفنة من الشرط أو كتيبة من أحابيشك؟ أما كنت حاضرا يوم وطئت أقدام الطلاب أعناق ميليشيات الدحة بن مولود التي جلبها لذات الغرض فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين؟ أبتاه..وا أبتاه تناهى إلى مسمعي أنك جلبت بعض الأحابيش من أقاربنا ليدافعوا عنك وليتولوا قمع الطالبات والطلاب حمية لك وعصبية دونك، ولست أصدق ما قيل، إلا أنني باسم كل آل فلان نبرأ إلى الله منهم ونقول: أيها السائل عنهم وعني لست من قيس ولا قيس مني وباسم آل فلان ننادي في شيوخنا وعقلائنا أن يأخذوا على يديك وأيدي أحابيشك من آل فلان حتى لا تلحقنا مسبة الدهر. أبتاه..وا أبتاه أود أن تراجع نفسك وتثوب إلى رشدك وأن تعلم أن الحق قديم وأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وأن غدا لناظره قريب، وغدا سيكون رئيسك خارج السطة ووزيرك خارج الوزارة وأنت لست مديرا للمعهد، وسيبقى كل واحد منكم موسوما بما فعل، سيبقى على رئيسك ميسم الاستبداد والسخف السياسي ويحمل وزيرك شارة من علم ولم يعمل بعلمه ولا أتمنى أن تحمل أنت لعنة الآبدين. أبتاه..وا أبتاه أسألك الاستقالة إنها أشرف عمل ستقوم به، قد يطهر سيرتك بعد شائبة ويغسل عنك العار بعد تلطيخ، أسألك أن تكتب استقالة مبينة كما فعلت فاجعة مبينة. إنك لو استقلت لجنبت نفسك كثيرا من الضيم ولأعدت لسمعتك شيئا من الطيبة..إنها أحسن لك وخير، فهل تراك فاعلا أم أنه قضي عليك التمادي في المحنة وأصبحت تنتظر الهاوية كمن زلقت رجله من فوق صخرة صماء، وقديما قيل: يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن ولتعلم ـ أبي ـ أن قصارى أمد إدارتك وحكم رئيسك وفترة وزيرك شهر أو شهران، وهب أنكم ستخلدون ـ ولن تخلدوا ـ أترضى أن تخلد ملطخا بالعار وموسوما بخزي الدنيا، إنها خطة خسف لا يرضى بها إلا الأذلان "عير الحي والوتد"، فلا تكن أحد الاثنين. وأخيرا ـ يا أبي ـ أسألك أن تحفظ لنا سمعة هي كل ما نملك وذكرا حسنا هو ما نمشي به بين الناس، فالله الله في سمعة عشيرك وذكر قبيلك، فالبار من حفظ ذكر أبويه والعاق من أحرق وصايا أجداده فبدل وغير وابتدع. أبتاه..وا أبتاه سيقول لك الوشاة إني أجهز عليك بهذه الكلمات وأتطاول على مقامك بهذا الخطاب، وأيم الله ما ذاك غرضي ولا مسعاي، بل أمد لك يدي لتنهض من عثرتك وحبلي لتخرج من وهدتك، وما زلت أؤمل فيك الخير فأنت من معدن خير، وأطمع أن تثوب لأن لك سلف معرق في التوبة والاستغفار. أما وأنت متماد في رأيك ومستمر في عملك، فلك مني الهجر الجميل وأنا ممسك بالحق الذي تخليت أنت عنه والرأي السديد الذي لم تبصره، وقد قال علماؤنا إن حق الحق مقدم على حقوق الخلق. أبتاه هذه رسالتي الأولى إليك بعد محنتك وأنا أنتظر منك الصواب أو لتنتظر مني الثانية.