لم يعد لدينا في موريتانيا مواسم كثيرة...لا موسم للخريف، لا موسم للحصاد، لا موسم حتى لجمع التمور، لا موسم للتداوي بالأسماك ( تكفل الجفاف واتفاقيات الصيد بالقضاء علي تلك المواسم)..لا موسم للهجرة في أي اتجاه، وباستثناء "المواسم الانتخابية والانقلابية" لم يعد لدينا موسم يستحق الذكر.
..ودعنا مواسم الفرح من زمن بعيد، موسم وحيد نتفيأ ظلاله - في هذا العهد "الراشدي" المجيد- ونقبل عليه باندفاع غير مسبوق،إنه موسم جمع الحطب..!! اليوم بدأنا الموسم الميمون...ها نحن وقد تنادينا إليه بقضنا وقضيضنا... نجمع الحطب- كما كان آباؤنا يجمعونه- وسنشعل به النار- كما كان أجدادنا يشعلونها- والفرق بيننا وبين الآباء والأجداد هو أنهم كانوا يجمعون الحطب لتدفئة الصحراء، وإنارة دروبها ذات ليال موحشة، بينما نجمع نحن الحطب لإلقاء وطننا في "أخدود" ملتهب، لا طمع لنا في أن يكون "بردا وسلاما" عليه..!! أقبلنا علي الموسم بنشاط غريب، تفرقنا نجمع الحطب، ولكل منا "حمالات حطب" خاصة به، والموسم مشجع، فالحطب الرقيق متوفر، والرجال يجمعونه وسط زغاريد النساء، وحماسة الشباب، و"الأخدود" تم حفره بنجاح منذ بعض الوقت.. لكل منا وجهته في البحث عن الحطب، وجلبه وتجميعه...ومن رآنا غارقين في جمع الحطب (نستبق الغابات)، منهمكين في الاطمئنان علي وضعية "الأخدود" الرهيب يعتقد بسهولة أن هناك جائزة لأكبرنا كومة حطب،وأمهرنا في جمع رقيق الحطب، وأشدنا تفانيا في إعداد "الأخدود" العجيب...لا مشكلة لدينا، فبؤر الحطب منتشرة من حولنا، وحمله متاح، وتجميعه من أسهل مراحل مهمتنا.. بعضنا ذهب إلي خلافاتنا السياسية (المعارضة والأغلبية..معارضة الحوار وموالاته.. الوحدويون والعنصريون.. الإسلاميون والقوميون.. اليساريون واليمينيون.. عملاء الخارج والوطنيون.. دعاة الثورة ودعاة الثروة) فاكتشف "حقلا" من الحطب الرقيق...والبعض اختار تجميع الحطب من الفوارق الاجتماعية والطبقية عندنا(البيض والسود..العرب والزنوج..البربر والملونون..العبيد والأسياد..الأغنياء والفقراء..المواطنون الأصليون والأجانب الوافدون)، فوجد فيها احتياطيا يكفي لإشعال الكرة الأرضية كلها...وآخرون وجدوا حطبهم المنشود في ساحات الجامعات والمعاهد ومؤسسات التعليم(النقابات المسيسة..المصالح المتضاربة..الخواء التربوي..الاحتكاكات اليومية والمباشرة بين الأحزاب والقوى السياسية المحلية التي تنشر أذرعها الأخطبوطية في الجامعة ترهيبا للخصوم ومحاولة للانفراد بالساحات الطلابية..القرارات الخرقاء..أزمة الهوية التربوية..الإفراغ المتواصل للعملية التربوية الوطنية من مضمونها وتحويلها إلي مجرد "لغم" أرضي مضاد للأفراد والجماعات) فبها "كنز" حطب لا يفني...وهناك من فضل التشريق والتغريب، وركوب البحر، واجتياز النهر، بحثا عن حطب أكثر اشتعالا ورقة...وهناك من وجدوا"مخزونا" هائلا من أكوام حطب جاهزة قوامها الأوضاع المعيشية والصحية الصعبة للسكان، وهي أكوام حطب مضمونة الاشتعال، وفعالة في نشر الحريق وتعميمه...أما ملفات العبودية، والزنوج، والإحصاء، والقاعدة، والبطالة، والتهميش، والإقصاء، والظلم، ونهب الثروات البحرية والبرية(يأخذ الأجانب الذهب ويمنحوننا الموت..يستنزفون بحرنا ويمنحوننا النفايات السامة..يذهبون بالنحاس ليدمروا أرضنا وبيئتنا ويهددوا حياة ومستقبل أجيالنا القادمة..يستغلون حديدنا ويتركون لنا مكانه جملة سرطانات غامضة وقاتلة)، والصراعات القبلية، و"التفرعن" المستمر لبعض صغار النافذين(رجاء لا تفكروا إطلاقا برصاصة بدر)، فإنها مجتمعة تشكل "ثروة قومية" من الحطب ليست بحاجة لأكثر من تقريب الفتيل لتلتهم نفسها. هنا وهناك علي حواف"الأخدود" الذي حفرناه لوطننا الجريح، الأمر أشبه ما يكون بمعرض عالمي للحطب، حطب من الجنوب، حطب من الشمال، حطب من الشرق، وآخر من الغرب، حطب مغربي، وحطب جزائري، وحطب سنغالي، وحطب مالي، حطب قطري، وحطب من جنيف، وابروكسيل، وباريس، وواشنطن، وتل آبيب، وعينات ثمينة من حطب "الربيع العربي" الذي أشعل ليبيا، ومصر، وتونس، واليمن، وسوريا، ونماذج نادرة من الحطب الذي أشعل العراق، وأفغانستان. حطب في كل مكان...حيث ما يممنا يكون الحطب كثيرا، ورقيقا وقابلا للاشتعال...ففي مآسينا حطب..في حماقاتنا حطب...في كياننا الهش حطب تاريخي وجغرافي وعرقي ..في مؤسساتنا حطب...في تعليمنا حطب...في إدارتنا حطب... في إعلامنا حطب.. في برلماننا حطب...في تياراتنا السياسية والفكرية حطب...في أحزابنا.. في انقلاباتنا.. في ديمقراطيتنا وتحالفاتنا.. في مخططاتنا وبرامجنا حطب...كل واحد منا يمثل "شهابا ثاقبا" رصدا...ثقافتنا قابلة للاشتعال...مجتمعنا المدني عود ثقاب...حتى خلافاتنا الأصولية والفروعية تتيح لنا كما هائلا من الحطب...ملأ الأفق يوجد حطب، وكلنا جامع حطب أو حامله بيده أو بلسانه أوفي قلبه...وطنيتنا رغوة صابون...وحدتنا بيت رمل علي شاطئ بحر صاخب...ولاءاتنا مائلة مميلة...كلنا نجمع الحطب ونحمله استعدادا للمحرقة...العسكريون والمدنيون، الأميون و المثقفون، العامة والنخبة والدهماء، المقيمون والعابرون والغرباء...كلهم وقود للمحرقة القادمة...ما منا إلا جامع حطب أو حامله أو نافخ في الكير...لا وطن يجمعنا...لا قضية توحدنا...نعرف أننا جميعا سنحترق مع وطن نتآمر عليه، ولكن لا بأس، المهم أن نحترق معا، فشعار كل واحد منا "أنا ومن بعدي الطوفان والحريق". "الأخدود" جاهز...عميق وبعيد عن كل مصادر المياه...فنحن نريد حريقا لا يبقي ولا يذر، يذهب بنا وبوطننا- الذي قيدناه بسلاسل التأخر والضياع السياسي والاقتصادي والأمني- إلي حيث لا رجعة أبدا...والحطب جاهز ومتوفر، والرجال يجمعون أكوامه علي مدار الدقيقة... كلنا في انتظار اللحظة الحاسمة...من بيننا من يريد أن يحترق، ولكن دون أن يشعل النار قبل غيره...ومن بيننا من يحاول أن يدفع الآخرين للاشتعال أولا، ليفكر لاحقا في النجاة بجلده...ومن بيننا من يتحمس لإشعال الحريق، لكنه يخشي أن يكون "عود ثقابه" ضعيفا بحيث لا يشعل كل جوانب "الأخدود"...ومن بيننا قلة لا ترفض إشعال النار، ولا يهمها مصير الوطن المحترق، ولكنها تجد حرجا شديدا في إشعال النار أولا، للاكتواء بها لاحقا..ومن بيننا من يخاف أن تبلل دموعه التماسيحية ولو ذرة من تراب "الأخدود فتحد من سرعة انتشار النار في الهشيم ...!! متفقون علي "الأخدود" والحطب وإحراق الوطن، ومختلفون حول لحظة البداية، وحول من سيمتلك الشجاعة علي أن يبوء بإثم وطن يحترق وشعب يتلظي، ويتحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن مصيرهما المتفحم.. من سيأخذ زمام المبادرة؟...متى سينبعث أشقاها؟...هل نغمض أعيننا لحطة ارتمائنا في أتون النار المتاججة، أم نفتحها لندرك حجم الخطأ الذي نرتكبه- معا- في حق وطن كان علينا أن نحبه وندافع عنه وشعب كان علينا أن نخدمه ونحميه؟! إننا في موسم جمع الحطب... اليوم حطب...وغدا حريق قادم لا يبقي ولا يذر...في خلافنا حول جرأة المبادرة بإشعال الفتيل أمل ضعيف بان ننتبه فجأة لنكتشف أن الحريق سيلتهمنا معا، وسيقضي علي أماني الموهومين بالنصر والتمكين، تماما كما سيقضي علي مخاوف المرعوبين من الهزيمة والقهر...غير أن للريح التي قد تهب في أية لحظة، ومن أي اتجاه كلمة فصل، قد تقولها فتجلب فتيلا ، أو تحمل شهابا، أو تنقل شعلة...ساعتها لن يكون لدينا وقت للتلاوم والبكاء، فالحطب الذي نجمعه اليوم سيكون قد أحاط بنا سرادقه ولات حين مناص ، وأحالنا رمادا مع الوطن الذي فرطنا فيه سفاهة وجهلا وعقوقا..!!.