في كل اجتماع حكومي أسبوعي يقدم وزير الصحة الحالي بيانا يتعلق ب"الحصباء"..ففي أول اجتماع حكومي يحضره قال إنه "ظهرت منها حالات في مناطق من البلاد وتمت السيطرة عليها".. في الاجتماع الثاني قدم بيانا قال فيه إن "وضعية الحصباء في البلاد مستقرة ولا تشكل مصدرا للقلق"، وفى الاجتماع الماضي قدم بيانا يتعلق ب"السيطرة على الحصباء"..!!
من يستمع لوزير الصحة لابد أن يعتقد أن البلاد في وضعية حسنة، وأن عمال قطاعها الصحي غير مضربين، من أبسط فراش إلى اكبر أخصائي وأستاذ في الطب منذ شهر من الآن، وإضرابهم يشل المرافق الصحية على عموم التراب الوطني، في سابقة هي الأولى من نوعها – وطنيا - من حيث وحدة عمال قطاع الصحة، وقدرتهم على إدارة إضراب شامل و مسؤول ومفتوح، وبنفس أطول من المتوقع.
إن تركيز الوزير على "الحصباء" في كل مرة يعنى ببساطة لدى السامع - غير الميداني- أن البلاد لم تعد لديها إلا مشكلة بسيطة مع "الحصباء" ينبغي القول للمواطنين في كل مرة أنها تحت السيطرة !!.
ربما أن المستشارين في وزارة الصحة، الذين يكلفون عادة بتقديم البيانات والاستشارات الفنية للوزير يعطونه- في كل مرة- نفس البيان، وفى نفس الورقة، وبنفس العبارات، مع إضافة عبارات في كل أسبوع ، ففي الأسبوع الأول- مثلا-"حالات عابرة تمت السيطرة عليها"..وفى الأسبوع الثاني "وضعية الحصباء مستقرة"، وفى الأسبوع الثالث "تمت السيطرة نهائيا على مرض الحصباء"، وهكذا على طريقة "الكلمات المتقاطعة"..ومن الغريب أن المستشارين لا يغيرون على الأقل اسم المرض في كل أسبوع كأن يخصصوا بيان الأسبوع الأول ل"النواسير الولادية"، والأسبوع الثاني ل"البواسير الشرجية"، والأسبوع الثالث ل"دودة غينيا" وهكذا..يفترض أن مستشاري وزارة الصحة الحاليين أطباء بالممارسة، أو المهنة أو الهواية، أو المجاورة، أو بقوة الوساطة ، أو بقدرة قادر، لذلك لابد أنهم يعرفون على الأقل أسماء150مرضا من الأمراض السارية والمعدية، ويمكن لهم في كل مرة القول إن أحدها تحت السيطرة..وإذا لم يكن المستشارون يتذكرون إلا مرض "الحصباء" فلماذا لا يلجأ ون لمحفوظاتهم التقليدية، ليكتبوا للوز يرفى بيانه الأسبوعي أنه تم القضاء على "البلغم" ،أو أن "الحموضة" تمت السيطرة عليها ،أو أن وضعية "الحرارة" (حرارة الطبع) في البلاد تحت السيطرة تماما.!!
يبدو أن الوزير ضحية لمؤامرة من مستشاريه (بعضهم من صناع المؤامرات كما يقول العارفون بالوزارة ودهاليزها البعيدة أسفل السلم الإسمنتي أو الإداري "لا فرق").
ولذلك كان يتعين عليه النجاة بجلده من تلك المؤامرة، والاستعانة- مثلا- بصديقنا مدير المصادر البشرية بالوزارة لإعداد البيانات التي تطلبها الحكومة، فذلك المدير رجل "رقمي" مفوه وطبيب (نفسي) أوصل راتب الممرض إلى حوالى300ألف أوقية بجرة قلم في حوار تلفزيوني مشهود، وأوصل راتب الطبيب إلى 600ألف أوقية، والأخصائي إلى ما فوق المليون، وتلك طريقة مهمة للعلاج النفسي لوساوس عمال الصحة المضربين و"هلوساتهم"، بعد عجز الدولة عن إيجاد علاج حقيقي لأزمتهم الحالية(معظم الدراسات المعاصرة تقول إن العلاج النفسي أهم من العلاج البدني والثاني يعتمد على الأول بنسبة تفوق الستين بالمائة)..
إن مدير المصادر البشرية يمكن له في بيان واحد أن يقول- دون أية مشكلة- إن البلاد قضت خلال أسبوع واحد على5000آلاف مرض معدي، ووزعت 100مليون جرعة ضد "الزائدة الدودية الولادية" بمعدل جرعة واحدة لكل 10مواطنين(عدد مواطني البلاد حسب إحصاءات الحكومة لايتجاوز3ملايين مواطن)..!!
إن الوزير بتقريبه ل"الحصباء" وتهميشه لبقية الأمراض، يعرض البلاد لخطر إضراب شامل، ستخوضه الأمراض كلها وترفض فيه الاستجابة للعلاجات والتطعيمات والتلقيحات لتصبح متمنعة وغير قابلة للشفاء حتى تتم مساواتها - في الاهتمام الحكومي- مع مرض "الحصباء" خاصة وأنه مرض متجاوز عالميا ولا يوصف بأنه فتاك وليس أكبر أهمية مثلا من "الوهط الوعائي المركزي"، أو "ذات الجنب"، أو "تضخم الغدة الدرقية"، أو "مشاكل القولون الصاعد"..وستكون الكارثة ساعتها كبيرة، فحكومة عاجزة عن مواجهة إضراب عمال قطاع الصحة وحل مشاكلهم ستكون أكثر عجزا عن مواجهة الأمراض التي سترفض- بشكل قاطع- أن يتم القضاء عليها، ولوعن طريق بيانات حكومية فارغة شكلا ومضمونا.!!
لنلتمس لوزير الصحة الحالي وطاقمه أحسن المخارج، فكل وزير لديه ملف فرعي وهامشي في مهمته عليه الاهتمام به لينشغل به عن ما سواه، على أن يترك بقية الملفات ل"الرجل الأخضر"، فهو وحده القادر على الإمساك بها، وحل المشاكل المرتبطة بها..فوزير الصحة السابق كان "وزير مقالات"..فعند تفاقم المشاكل الصحية يكتب مقالا لاذعا ضد المعارضة، وبمجرد نشره في المواقع والصحف الوطنية تتراجع "الحمى القلاعية"، وتصبح البلاد "بلا شلل"، ويتم تلقيح كل الأطفال والنساء (فوق سن الإنجاب) ،ويختفي "السل الرئوي"، وينقرض "السيدا"، ويتم اكتشاف لقاح وطني مجاني ضد "البلغم"!!.
يعرف هذا النوع بحكومة التخصص، حيث يصبح وزير الإسكان والعمران "وزيرا للترحيل وشق الطرق"، وتصبح وزيرة الوظيفة العمومية "وزيرة لعيد العمال والعرائض المطلبية العمالية" (التي يضرب بها عرض الحائط)، ويتحول وزير الإعلام إلى "وزير لليوم العالمي للصحافة"، ويكون وزير التهذيب "وزيرا للمنح والمسابقات" ، ووزير الخارجية "وزيرا لحفلات العشاء"، ووزراء رئاسة الجمهورية ومستشاروها "وزراء ومستشارين للديكور فقط"، (مثل المزهرية التي تظهر من حين لآخر في مكتب رئيس الجمهورية أثناء استقباله لضيوفه أو مثل الميكروفونات المصلوبة بجمود في مكان ما من الرئاسة لتسجيل كلمات الضيوف الخارجين للتو من الاستقبالات الرسمية) يجلسون محلقين رؤوسهم ومقصرين و مشبكي سواعدهم في الاستقبالات والتوديعات و"التسلمات" والتوشيحات..
من الواضح أن لكل وزير ملف مصغر يهتم به على حساب بقية الملفات الموكلة إليه، ولذلك فإن وزير "الحصباء" من المحتمل (إذا لم تتم تنحيته فجأة) أن يصبح لاحقا وزيرا للشلل "لا نعنى طبعا شلل الأداء الحكومي وإنما نعنى شلل الأطفال"، ثم بعدها سيصبح وزيرا ل"العشى الليلي"، ثم "الحمى القلاعية"، ف"جنون البقر"، وهكذا..
ولكن لابد أن يصبح - ولو بعد عشر سنوات- "وزيرا للإضراب" يعهد إليه بتقديم بيان لمجلس الوزراء، يقول فيه "إن إضراب عمال قطاع الصحة أصبح تحت السيطرة، ووضعيته مستقرة، وقدتم توزيع الجرعات الخاصة بالوقاية منه على عموم التراب الوطني"..يومها سيكون البيان معقولا لأنه معد - بطريقة تشاركية جماعية - من طرف المستشارين، والأمين العام، ومدير المصادر البشرية، ومدير اللوازم، والمدير الإداري والمالي، وأصدقاء الوزارة، وزوارها من ذوى الحاجات والاحتياجات و"المهمات" الخاصة.!!