أطلعت بالأمس على تقييم لواقع القطاع الزراعي المروي في ولاية اترارزة من جهة ليست من المختصين في المجال، ولا حتى من المشتغلين به، أجملت مشاكل القطاع في نقاط أغلبها يوحي بعدم الدراية، أو الاستعاضة عن الدراية بتلقي معلومات من جهات إما، لا تدري هي الأخرى، أو لديها غرض مما قدمته من معلومات وهو الاحتمال الأكبر، لأن من لا يدري إما أن يكُف، أو أن يحرص على تلقي المعلومات الدقيقة
إذا كان هدفه التوجيه ولفت الانتباه بغرض التصحيح.. وقد قلت الاحتمال الأكبر تأسيسا على توقيت التقييم الذي جاء على شكل رسالة تكررت فيها عبارة " التعديلات الدستورية " بعدد فقراتها الخمس ومقارنة أهميتها وقيمتها، أي التعديلات، بتطلعات ومشاكل المزارعين!
وبصفتي فني زراعي عاصرت " الطفرة الكاذبة " التي شهدها القطاع بداية تسعينات القرن الماضي، وواكبته إلى أن تم انهياره بداية الألفية بسبب غياب الاستراتيجيات والتركيز في تسييره على مفهوم " الزراعة السياسية " بدل " السياسة الزراعية ". ذلك الانهيار الذي وصل الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى الحكم ووجد القطاع في الرمق الأخير كنهاية مطاف لتلك السياسات، وكان أول ما قام به في هذه الصدد هو قرار توقف الدولة عن التدخل في القطاع لسنة كاملة إلى أن يتم الانطلاق به حسب خطة جديدة، وهو ما تم باعتماد خطة 2011 ـ 2015 التي قامت على أساس دعم المدخلات الزراعية، والتزام الدولة بشراء الإنتاج تحفيزا للمزارعين على العودة للقطاع بعد هجره بسبب الإفلاس والإحباط والعجز عن متابعة ممارسته، بالإضافة إلى العمل على التوسع في الاستصلاحات الزراعية.
صحيح أن المساحات الصالحة للزراعة على ضفة النهر تقدر ب 340.000 هكتار، لكن ليست هذه الأراضي وحدها هي ما نتوفر عليه من مساحات زراعية، فحتى أراضينا الرملية الخفيفة المتاخمة لسهل شمامة والمطلة على النهر هي أراض زراعية مناسبة لكثير من أنواع الزراعات، خاصة الأعلاف والبطاطس والبصل والفول السوداني المهم لقيام صناعة زيوت الطبخ وإنتاج الأعلاف عالية القيمة، وكل سهول لبرا كنه من ألاك مرورا بمكطع لحجار وصانكرافه وأشرم بولاية تكانت وإلى غاية سهول القايره الممتدة جنوبا باتجاه باركيول هي أيضا أراض زراعية خصبة لا ينقصها سوى جر المياه لها من النهر، بل ونذهب أبعد من وذلك ونقول إن كل سهول إينشيري وآمساكه وتازيازت هي الأخرى أراض زراعية إذا توفر لها الماء الكافي، ولكن لنبدأ بالأسهل كتلك الأراضي التي يمكن حفر قنوات الري لها من النهر في لبراكنه وجنوب لعصابه، وسمعنا حديثا للحكومة عن مشروع لحفر قناة لربط بحيرة آلاك بالنهر، وسيكون ذلك في غاية في الأهمية للتمكين من استغلال مساحات واسعة على طول ذلك المحور، ولا أعتقد أن هناك من أهل القطاع ولا من صناع القرار من يغيب عنه أن مساحاتنا الزراعة كافية لتغذيتنا وتغذية آخرين غيرنا، لكن ذلك يتطلب كثيرا من الإمكانيات، وليتها الإمكانيات فقط إذ لابد أيضا من مجتمع منتج عملي، على أن المعول عليه في استغلال هذه المساحات هو ما تستطيع الدولة بإمكانياتها تجهيزه من أجل استغلاله، لكن الاستغلال الأهم من ذلك، وعلى نطاق واسع، هو الاستثمارات الأجنبية المالكة لرأس المال والتقنيات الحديثة، وقد كانت أولى التجارب في ذلك هي المساحة التي استأجرها مستثمر خليجي في بلدية دار البركة، والتي ظل جيرانها أو حائزوها ينظرون إليها بعد أن مات آباؤهم وأجدادهم وهم ينظرون إليها أيضا عاجزين عن استغلالها، وكان الهدف من منحها لهذا المستثمر هو استغلالها وتزويد سكانها بالخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وغذاء وصحة وتعليم، بالإضافة إلى تشغيلهم وتكوينهم على تقنيات الزراعة الحديثة، لكن القوى المعارضة سرت تحت جنح الظلام إلى هؤلاء البسطاء المساكين وحرضتهم على رفض المشروع، لينسحب المستثمر ويعود الملاك إلى أرضهم ينظرون إليها عاجزين كما كانوا يفعلون!
1ـ لكن غير صحيح أن القطاع ضُخت فيه 140 مليار أوقية منذ سنة 2009 ولم يتجسد منها على أرض الواقع سوى 15 مليار، فالمبلغ الذي تم ضخه في القطاع منذ ذلك التاريخ أقل من هذا المبلغ، لكن ما تجسد منه على أرض الواقع أكثر من 15 مليار بكثير، لأن قيمة الاستصلاحات الزراعية وحدها زادت على ال 20 مليار في اترارزه ولبراكنه وكوركول وكيديماغا، دون احتساب تحمل الدولة لجزء من تكاليف المدخلات الزراعية تشجيعا للمزارعين، وفعلا كانت هناك خسائر اعترفت الدولة بها وأدرجتها كتضحيات في سبيل إعادة نهوض القطاع وتحفيز المحبطين منه للعودة إليه، ولا أبرئ المشرفين على القطاع إلا أنني أيضا لا أستطيع وضعهم في كفة واحده إذ منهم المخلص المسؤول، ومنهم المقبول، ومنهم دون ذلك كبقية المشرفين على القطاعات الأخرى.
2ـ غير صحيح كذلك أن أراضي " أنكك " و " تنيدر " بعد إنفاق 6 مليارات على استصلاحها تبين أنها غير صالحة للزراعة، فأراضي المنطقتين هي، ودون الحاجة لتحليلهما مخبريا والاكتفاء بالعين المجردة أراض صالحة للزراعة ، إذ ليست تلك الأراضي سوى امتدادا لأراضي شمامة السوداء الثقيلة والخصبة بنفس الخصائص والمواصفات، وقت تم الانتهاء من استصلاحها وكان الشروع في استغلالها ينتظر تعميق رافد " أمبليل " لكي يصبح قادرا على تغذية قناة الري التي تروي هذه الأراضي بشكل مستدام.
3ـ غير صحيح كذلك أن الدولة انتزعت أراضي " أمبوريه " من ملاكها الأصليين ومنحتها لحملة الشهادات، فأراضي " أمبوريه " هي أراض للدولة تمنحها لبعض التعاونيات من أجل استغلالها، والأراضي التي تم منحها لحملة الشهادات كانت أراض غير مستغلة منذ عدة سنوات تمت إعادة استصلاحها، وبدؤوا استغلالها منذ ذلك التاريخ، عاشوا الصعاب التي يعانيها القطاع كغيرهم من المزارعين في قطاع قادم من سنوات من التخبط والتدمير، بعضهم نجح وربح، وبعضهم خسر، وبعضهم الآخر وجد عملا يفضله عن ممارسة الزراعة، وقد كان عدد المتغيبين منهم عن آخر حملة زراعية 66 فقط من أصل 185.
4ـ لم يكن مشروع حفر قناة آفطوط الساحلي بهدف توفير أراض لحملة الشهادات، فأهداف المشروع أكبر من ذلك وأشمل، فهو خصيصا لجر مياه النهر من مسافة 55 كيلومتر للتمكن من استغلال آلاف الهكتارات التي كانت عاطلة عن الاستغلال في تلك المنطقة، وخلق فرص جديدة للزراعة والتنمية الحيوانية والأنشطة السياحية والتنموية والصناعية التي كان غياب الماء يحول دونها، والوعود التي تلقاها حملة الشهادات وغيرهم بمنحهم أراض في هذه المنطقة لا زالت قائمة، ولا علاقة لحملة الشهادات بصندوق الإيداع والتنمية من حيث القرض والتمويل لأن عملية دمجهم في القطاع تتولاها وكالة تشغيل ودمج الشباب، وهي المعنية بتقييم عملية دمجهم ومتابعة تمويلهم حسب مسطرة سياستها وإجراءاتها.
5ـ الأضرار التي تسببها الآفات وتأخر الحصاد معلومة لدى القطاع ولدى المزارعين، ومشكلة الحصاد مشكلة رافقت القطاع منذ بدايته بسبب ارتفاع تكاليف وصيانة آلات الحصاد، وعدم ملاءمة البنى التحتية الطرقية والفنية في شمامة لاستغلال هذه الآلات، وقد بدأت الدولة مع بداية النشاط في القطاع في استجلاب آلات الحصاد وإنشاء شركات لتسييرها، لكن اتضح أن هذه العملية عملية خاسرة بسبب مسلكيات لا نعرف متى سيتم التغلب عليها، وهي اعتبار الكل لما تمتلكه وتسيره الدولة هو فرصة للتلاعب ويستوي في ذلك المسيرون والمستخدمون، فقررت مؤخرا بيع تلك الآلات من جرارات وحاصدات للمزارعين على شكل قروض وأقساط عسى أن تحظى هذه الآلات بتسيير وتشغيل أمثل باعتبارها أصبحت ملكا لخواص، كما أن اعتماد المزارعين على السنغال في الحصول على حاصدات هو كلام فيه كثير من المبالغة، لأن الحاصدات أثقل وأصعب تنقلات من أن تنتقل من السنغال إلى الحقول الموريتانية الممتدة شرقا وغربا، فما يقع هو الاستعانة بحاصدة أو اثنتين من السنغال بالنسبة لأصحاب الحقول المتاخمة أو المتداخلة مع الأراضي السنغالية، وليس صحيحا أن الدولة تحتكر 35 آلة حصاد في معهد iset بروصو، فالأمر يتعلق ب 17 آلة حصاد جديدة قالت الدولة إن موردا زودها بها ولم تدفع له دفعات ثمنها حتى الآن، ولا تستطيع بيعها للمزارعين بقروض لا تعرف متى وكيف سيتم تسديدها قياسا على الآلات السابقة التي باعتها لهم ولا زالت أقساطها لم تُسدد بعد، وعلى أية حال فلا حل لمشكل الحصاد إلا بانخراط المستثمرين الخصوصيين في استيراد الآلات، خصوصا أنها كالمضخات والجرارات معفية من الضرائب ضمن التشجيعات التي تقدمها الدولة للفاعلين في القطاع.
6ـ الوحيد مما أخلص فيه مقدم هذه المعلومات لكاتبها في رسالته الموجهة للرئيس هو مركزية ودور البذور المحسنة في أي زراعة تروم الاستدامة وتسعى في رفع جودة وكمية الإنتاج، وغياب شعبة معنية بإنتاج ومراقبة جودة البذور حتى الآن، وهذا صحيح وإن كنا لا نعرف ما الذي لا زال يعرقل إنشاء تلك الشعبة كونها لا تتطلب الكثير من الإمكانيات، فقط فنيين ومساحات لإكثار وإنتاج البذور ووحدة لتذريتها ومخبرا لاختباراتها، وهذه المستلزمات كانت متوفرة عندنا كرابطة مهنية للمزارعين ممولة من طرف التعاون الفرنسي تسعينات القرن الماضي، وكنا ننتج حاجة المزارعين من البذور المعتمدة بإشراف من مركز البذور بكيهيدي الذي لا يزال قائما وقادرا على الإشراف على العملية.
بالتأكيد، لم يقف قطاع الزراعة المروية بعد على رجليه بالنظر إلى عدة عوامل أولها أنه مغروس في بيئة مجتمعية بثقافتها غير زراعية، حيث أن 98% من العمال اليدويين اليوم في الحقول بولاية اترارزه التي أعرفها ويمكنني الحكم عليها هم من الأجانب، ماليون وغينيون أساسا، وليس ذلك لأن المزارعين يرفضون تشغيل الموريتانيين وإنما لأن الموريتانيين يعزفون عن العمل في الحقول الزراعية، وثانيها لأن القطاع أسس على قواعد غير سليمة ولا زال يجر سلاسل وأثقال عقود من الارتجالية وغياب التخطيط لن يخلصه منها إلا سنوات من السير على النهج الصحيح، وثالثها أنه يتميز عن القطاعات الإنتاجية الأخرى بكونه يتأثر بمؤثرات خارجة عن الإرادة ولا يمكن التحكم فيها كعوامل المناخ المتقلبة. لكنه بالتأكيد يتحسن وتشير إلى ذلك عدة مؤشرات منها الزيادة في المساحات، وتطور كمية ونوعية الإنتاج، والتزايد المضطرد في عدد مصانع التقشير.
ويطمئننا هنا ما جاء على لسان السيدة الوزيرة في خطابها بالأمس من التركيز على الصرامة في التسيير، واعتماد منطلقات جديدة لكل موسم زراعي اعتمادا على حصيلة الحملتين الأخيرتين، ومدى توفر الآلات الزراعية، وجاهزية المساحات الزراعية، واستعداد المزارعين. إذ لا قيمة مثلا، بل هي الخسارة بعينها، أن نزرع مائة ألف هكتار لا تتوفر الآلات لحصادها أو المصانع لتقشيرها، أو زراعة مساحات غير صالحة، ولا فائدة من ذلك كله مع مزارعين غير مستعدين وغير مؤطرين ولا معبئين.. وفيما يخص آلات الحصاد فلا بد من مقاربة جديدة، على الأقل في مساحات التعاونيات الزراعية، فليس من المنطقي أن يضيع محصول مزارعي تعاونية بمساحات صغيرة أو متوسطة، وبها عشرات الأشخاص في انتظار آلة حصاد في الوقت الذي باستطاعتهم حصاد محصولهم يدويا مع تزويدهم بآلة ضرب الأرز ( Batteuse )، خصوصا أن الفاقد في الحبوب في حالة الحصاد اليدوي يكون أقل بكثير منه في الحصاد الآلي.
أما ربط عوائق قطاع الزراعة بالاستفتاء على التعديلات ( المتغزل عليه )، واستغلال مناسبة افتتاح الحملة الزراعية في افتتاح حملة مقاطعة الاستفتاء فلا نعتقد أنه في محله أو هذا مجاله، فلذلك ساحاته و " كرفوراته ".. ومسيرة الأمم محطات يجب أن تسير جنبا إلى جنب، السياسي منها والاقتصادي والاجتماعي والتنموي، ولا مبرر لتعطيل إي من تلك المحطات في انتظار أن يتحقق ويتكامل كل شيء..