المجالس الجهوية ... عودة "الهياكل" / حبيب الله ولد أحمد

قديما باع أحدهم "البصل" ليشتري" البصل"، واليوم يعيد التاريخ نفسه في موريتانيا، حيث تم التخلص  ـ عبر استفتاء "إنقلابي" ـ من مجلس الشيوخ الذى أزعج الرئيس، بعد رفض غالبية أعضائه لتعديلات دستورية، رأوا فيها ـ مع غالبية الشعب ـ عقوقا للعلم الوطني، وقفزا على الدستور، ومزيدا من خلط أوراق المشهد السياسي المحلي المختلطة أصلا.

لم يقل الرئيس للشعب إن الشيوخ أغضبوه ويريد التخلص منهم، ولم يتحدث أيضا عن أهمية المبنى الذى يحتضن مجلسهم، ولا عن موقعه "الاستراتيجي" الذى لا يقدر ب"ثمن" بالنسبة لنظام باع المدارس الإبتدائية، ومدارس الشرطة، وملاعب كرة القدم، والساحات العمومية، وحتى "الثكنات الأمنية"، و"الحمير"، لكنه تحدث عن "تكلفة" مجلس الشيوخ، معتبرا أنه أثقل ميزانية الدولة وأنه لا ضرورة له أصلا، وأن الإنفاق عليه تجاوز الإنفاق على المستشفيات مثلا.
لم يكن الرئيس يسعى لإقناع أحد بأي شيء، فالتخلص من الشيوخ مسألة حياة أو موت بالنسبة له، وقد خرجوا من تحت عباءته في مشهد ليس من الأشياء التي "خطرت على باله" ذات خطاب "تنصيب" شهير، وقد أجمع أمره، وحشد رجاله ،وأموال الدولة، ومؤسساتها، لتنفيذ رغبته غير مهتم لا برفض الشعب لتغيير الدستور والعلم، ولا بحماقة صرف أموال شعب يموت جوعا وجفافا وحوادث سير، فى استفتاء أحادي عبثي قبيح الشكل والمضمون.
"أنجح" الرئيس استفتاءه بأصوات الأحياء والموتى، فى مشهد تزوير يتوارى ولد الطايع خجلا من رؤيته، لتنتشر رائحة "البصل" الذى "اشتراه"  فى كل مكان..!!
هل من الحصافة التخلص من مؤسسة دستورية، بدعوى الأعباء المالية التى ترهق بها كاهل الخزينة، فى نفس الوقت الذى ستتم فيه زيادة أعضاء الجمعية الوطنية بأعضاء جدد، وتسمية "مجالس جهوية"  بتكاليف مالية تفوق بالضعف ما بكى له الرئيس من نفقات على مجلس الشيوخ ؟!!
هل اعتقد الرئيس مثلا ـ كما اعتقدت وزيرة فى حكومته ـ أن النواب متطوعون وأعضاء "المجالس الجهوية" متطوعون وبالتالي لن يأخذوا فلسا من الخزينة مكتفين ب"أجر الآخرة" ؟!!
والحق أن "المجالس الجهوية" تحكم موريتانيا الآن فعلا لا قولا، ففى كل ولاية مجلس هو عبارة عن تحالف بين السياسيين والعسكريين، والوجهاء وشيوخ القبائل والطرق، يتحكم فى كل شيء، ويتصرف فيه الرئيس، وقد ظهر ذلك جليا فى الاستفتاء الأخير، الذى غابت فيه هيبة الدولة وكرامتها، وترك الحبل على الغارب لتلك "المجالس" لتملأ الصناديق بالطريقة التى تراها مناسبة.
ولا يمكن لغبي " معلوم الغباء " أن ينتظر خيرا من "المجالس الجهوية" التى يحاول الرئيس إظهارها للعلن لا أقل ولا أكثر، فهي موجودة ونشطة وتعمل على إدامة النظام بكل ما هو متاح لها من قوة وتمكين.
لا يراد ل"المجالس الجهوية" القادمة أن تكون أداة للتنمية، وأية تنمية يمكن التفكير فيها تحت ظل نظام يبيع كل شيئ ويربح من كل شيئ ..؟!!
إن "المجالس" القادمة ببساطة شديدة هي إحياء لفكرة "هياكل تهذيب الجماهير" الهيدالية ،والتى هي استنساخ مشوه ل"اللجان الشعبية" القذافية لا أقل ولا أكثر، ويريد النظام التحكم أكثر عن طريقها فى مجريات الأمور، وإحكام قبضته "الأمنية" عبر هيكلة "عسسية" ، تحسب أنفاس الناس وحركاتهم، بطريقة أكثر نجاعة من الصفقات القاراقوشية ل"احميده ولد أباه" الذى أنفق الكثير من المال "الحرام" فى كل أنحاء العالم، بحثا عن منظومة متطورة للتجسس على المواطنين ومراقبتهم على مدار الساعة، ولم يجن سوى تحوله إلى رجل مخدوع ، يتعامل مع مؤسسات وهمية تأخذ مال الخزينة العامة مقابل "ألعاب أطفال" أثبتت التجربة فشلها عبر العالم.
ومن شأن "مجالس عزيز" الجديدة أن تمنحه قبضة أكثر "فولاذية "على عموم التراب الوطني، إذ سيتحول أعضاء "المجالس" المقترحة إلى أعضاء "فصيل أمني" فى "ثوب مدني"  ـ تماما كما هو الحال بالنسبة ل"المجلس الأعلى للشباب" وفروع الحزب الحاكم ـ  يعهد إليه بمراقبة الأفراد والأسر ، والتجمعات المحلية ،ولإصدار إشارات للنظام فى حالة ملاحظة أي تذمر فردي أو جماعي من الأوضاع السيئة على طول البلاد وعرضها ،للتعامل مع التذمر بطريقة أمنية سريعة، تعتمد "القمع" لمن يريد "القمح" ..!!
تلك هي "المجالس" المقترحة،  وذلك نصها وجوهرها وعصارة فكرتها، أما القول بأنها تقرب خدمات الدولة من المواطنين فهو قول لا يصمد أمام الواقع، فأين الدولة  وأين خدماتها  وأين المواطن  وأين القرب ..؟!!
ليس في الأمر كله أكثر من عودة "الهياكل" بقوة لتتحكم وتحكم الرئيس فى أعناق الناس، أما أرزاقهم فقد تحكم فيها منذ وصوله للسلطة .
ولا يمكن لحمار يضع رأسه فى علافة فارغة، أن يقتنع بما يقوله أنصار النظام حول أهمية "المجالس" باعتبارها ستشرف على التنمية المحلية والجماعية فى حيزها الجغرافي، والكل يعرف انه لا تنمية محلية ولا جماعية فى ظل فساد ماحق، أتى على كل ثروات البلاد، وكرس الغبن والنهب والتلصص، وعاث فسادا فى كل ما تملكه البلاد من ثروات هائلة، كان نصف عائداتها يكفى لبناء بلد متطور طبيا وتعليميا وطرقيا ، لو سير بطريقة رشيدة وبعدالة ومساواة وتكافئ للفرص، يعطى لكل مواطن موريتاني حقه من ثروات أرضه المعطاء.
لم يزد الرئيس على أن اشترى "البصل" لبيعه لاحقا، وبطريقة "حطاب الدشرة"، فلن تكون "المجالس الجهوية" أرحم بخزينة الدولة من مجلس الشيوخ، لكن المؤكد أنها ستكون أرحم بالرئيس من شيوخ خرجوا على أوامره، ورفضوا القفز على الدستور، وإشعال الحرائق فى تاريخ بلد، حاضره ليس مطمئنا على مستقبله .

 

9. أغسطس 2017 - 22:33

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا