سؤال مركزي، يشغل بالي وأنا أسلك طريق الأمل بين مدينة نواكشوط والعيون، حيث مقر عملي بجامعة العلوم الإسلامية مدرسا بكلية اللغة العربية والعلوم الإنسانية قسم علوم الإعلام وتقنيات الاتصال، ولا أظن أن هذا السؤال يغيب كذلك عن بال أي من زملائي في القسم، أو الإخوة الإداريين، الذين هم بالدرجة الأولى أساتذة أيضا، ولا عن بال طلبتنا الذين ندرسهم، ونتقاسم وإياهم هموم القسم والجامعة.
هذا السؤال قديم متجدد عن علاقة ما نقدمه في أقسام الدراسة بالواقع المتسارع لتقنيات الإعلام والاتصال، وبالتالي بمستقبل الذين ندرسهم.
لا يمكن في مساحة صغيرة، بحجم المساحة التي ينشر بها مقال رأي معالجة إشكال قديم، وعميق مثل إشكال العلاقة بين مخرجات الجامعة وما يتطلبه الواقع الإعلامي في البلد، وهو إشكال ظل يثير جدلا واسعا بين المهتمين بالمجال التربوي في العالم، والأكاديميين من جهة، وبين أرباب الأعمال، والمشتغلين بالمجال من جهة أخرى. ويكفيني هنا أن أثير الانتباه إلى واقع المناهج في بلدنا وعلاقتها بسوق العمل، وبتطور الإعلام نفسه، والدراسات التي واكبت هذا التطور من جهة أخرى.
المؤسسات.. الكم لا يغنى عن ما يضيفه الميدان
ولا بأس قبل إعطاء ملاحظاتي الإشارة إلى طرف من الواقع الأكاديمي المتعلق بالمجال؛ فقد كانت بواكير تدريس الإعلام في البلد من خلال استحداث شعبة الحضارة والإعلام في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية سنة 2007 تلاها تأسيس قسم الإعلام بكلية اللغة العربية في جامعة العلوم الإسلامية في العيون، سنة 2011، ثم إضافة الإعلام كتخصص مهني للتكوين في المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء، كما أنشئت وحدة للإعلام في شعبة المكتبات والتوثيق والأرشيف بكلية الآداب بجامعة نواكشوط.
وقد خرجت جامعة العلوم الإسلامية في العيون لحد الساعة 68 طالبا في أربع دفعات، كما خرجت المدرسة الوطنية للإدارة 30 كاتبا صحفيا في دفعة واحدة، وزعوا على المؤسسات العمومية ذات العلاقة.
ولم أستطع الحصول على رقم محدد لخريجي شعبة الحضارة والإعلام بالمعهد العالي إلا أني أتوقع أنهم بالمئات.
ولا شك أن إنشاء مؤسسات لتدريس الإعلام يعتبر خطوة مهمة على سبيل تطوير الحقل في البلاد.
المنهج والميدان ماذا يقدم كلاهما للآخر؟
وقد أعطت هذه الخطوة نتائج واضحة؛ فهناك اليوم في الساحة الوطنية مئات الخريجين، من هذه المؤسسات الوطنية، وأنجزوا بحوث تخرجهم عن مؤسسات، وقضايا في الإعلام الوطني.
ومع هذا فإن نظرة أولية على مقررات هذه المؤسسات الأكاديمية، قد تعطي صورة قريبة من واقع هؤلاء الخريجين، ومدى قدرتهم على الإسهام في تطوير الحقل الإعلامي، والنهوض بواقعه، الذي نتفق جميعا على أنه لم يعد سلطة رابعة، وإنما أصبح أداة كل السلط في ممارسة جزء أساسي من مهامها، والقيام بوظائفها.
تدرس هذه المؤسسات مواد الصحافة الأساسية، كما تدرس الأشكال والأجناس الصحفية، وتعطي إطلالة على بعض المواضيع الداعمة للتخصص، مثل: الرأي العام، وعلم الاجتماع الإعلامي والقوانين الإعلامية، هذا علاوة على نظريات الاتصال التقليدية. وتغطي بعض المجالات التقنية مثل المونتاج والتصوير الصحفي.
زاويتان مركزيتان
وحتى يكون الكلام أكثر تحديدا فإني أشير إلى أن ملاحظتي ستتجه إلى زاويتين رئيسيتين مترابطتين إلى حد ما؛ الأولى تتعلق بالإعداد المهني وفق حاجة السوق، وتتعلق الثانية بمواكبة تطور صناعة الإعلام، خاصة ما يتعلق بمنصات التواصل الاجتماعي التي أحدثت انقلابا في المجال الإعلامي، من حيث آلياته ووسائله.
إذا نظرنا إلى المشهد من زاوية التكوين المهني المتعلق أساسا بالتدريب على العمل الميداني في الصحافة، سواء تعلق الأمر بالعمل الميداني بمعنى النزول إلى الشارع، وكتابة التقارير والتحقيقات الميدانية، أو تعلق بالتقديم التلفزيوني والإذاعي، أو بالتحرير الإخباري، فإننا نجد أن هذه المؤسسات لا تمتلك البنية الكافية لتدريب طلابها، من استيديوهات، وغرف أخبار، وتجهيزات تقنية للتصوير والتسجيل والمعالجة، إذا ما استثنينا جامعة العلوم الإسلامية بلعيون، والتي تتوفر على استديو إذاعي وآخر تلفزوني،كما أن طبيعة المناهج التي تشحن أغلب وقت الطالب والأستاذ بتدريس المادة النظرية وتلقيها، تقف عائقا أمام إنفاق الوقت في التدريب والتطوير.
ولا تمتلك أغلب المؤسسات الوطنية بيئة مهنية، ولا تجهيزات تقنية تمكن من تدريب الطلاب قبل تخرجهم، لذلك فإن أغلب الطلاب الذي يلتحقون بالمؤسسات الوطنية في فترات تدريب أثناء دراستهم لا يكتسبون مهارات تذكر، إذا قورنت مع الوقت الذي ينفقونه.
أما الناحية الثانية، فإن الأمر أكثر تعقيدا، وأخطر؛ ففي الوقت الذي ينكب فيه طلابنا على دراسة أركان نظرية الاتصال الأربعة، فإن منصات التواصل الاجتماعي قد كسرت هذه النظرية، وغيرت مواقع هذه الأركان، ولم يعد هناك متلق واحد، ولا مرسل واحد. وقد شرحت الأمر أكثر في مقال سابق.
وفي الوقت الذي يتدرب فيه طلابنا في المؤسسات الإعلامية على تقنيات إعداد التقرير التلفزيوني أو الإذاعي، فإن صناعة الفيديو الرقمي متعدد الأجناس أصبحت تجتاح سوق الإعلام الإلكتروني والتلفزيوني.
تنبيه لمن يهمه الأمر
إن هذا المقال مجرد تنبيه لمن يهمه أمر هذا القطاع الحيوي الحساس، إلى أنه حان الوقت لوضع سياسة إعلامية واضحة تأخذ في الحسبان التطورات الهائلة التي عرفها الإعلام في السنوات الخمس الأخيرة، وتلك التي ينتظر أن يعرفها في السنوات الخمس القادمة. والاستفادة من خبرات أبناء الوطن كافة باكتتاب أساتذة لهذا التخصص ودمج خريجيه في المؤسسات الوطنية.
إنني أعتقد أنه لا بد من وجود مؤسسة وسيطة بين المؤسسات الأكاديمية والسوق، يكون مرور الطالب عليها إلزاميا حتى يستكمل تكوينه، ويصبح مؤهلا لولوج سوق العمل دون عقبات كبيرة، وإلا أصبحنا خلال فترة قصيرة مسوؤلين عن زيادة حملة الشهادات العاطلين، في الوقت الذي نسعى فيه لخدمة قطاع حساس.
إن زيادة عدد المؤسسات التي تتولى تدريس مواد إعلامية أمر محمود، ويجب أن يكون محل ترحيب، ويجب أن يواكب بعملية تدريب للطلاب تؤهلهم لدخول سوق العمل.
------------
د.أحمد سالم فاضل / أستاذ الاتصال ونظريات الإعلام في جامعة العلوم الإسلامية بالعيون