لم تعش الدول العربية جمودا سياسيا وجدْبا ثقافيا وفسادا اقتصاديا مثلما عاشته في ظل الحكم العسكري. وقد امتاز العسكريون ذوو النزعة اليسارية من بين هؤلاء الحكام باستيراد الطرائق الستالينية في ممارسة السلطة، فأضافوا هذا الشر إلى شرور الحكم الاستبدادي العسكري في كل مكان.
والستالينية مصطلح مشتق من اسم الزعيم الشيوعي السوفياتي جوزيف ستالين، وهي منهج في الحكم يتأسس على دعائم خمس:
1- الوثنية السياسية، من خلال عبادة القائد، وتماهي الدولة في شخصه، فهو ظل طويل ثقيل، له يد في كل حركة وسكون، وله الفضل في كل مصلحة تتحقق، وهو بريء من كل قصور أو تقصير!!
2- التشبث بالسلطة إلى الأبد، مع أمل عريض بالبقاء، وسد المنافذ أمام الطامحين إلى المشاركة في الشأن العام، إلا من كان ظلا للحاكم، متملقا له، يرضى بوظيفة المحكوم به، دون مشاركة فعلية في الحكم.
3- المركزية الطاغية التي تخنق كل إبداع أو اندفاع، وتجرد المواطنين من صفتهم الإنسانية المشحونة بأشواق الحرية والكرامة، وتختزلهم في صفتهم الحيوانية: قطيعا يأكل ويشرب ويطيع قائده إلى الأبد.
4- القمع الوحشي لكل من تسول له نفسه نقد الحاكم المتأله، والتنكيل بمن تمسكوا بحقهم الإنساني في أن يكون لهم رأي في تنصيب السلطة المتصرفة في مصائرهم، وفي مراقبتها ومحاسبتها.
5- الدعاية الفجة السطحية التي لا إيماء فيها ولا إيحاء، وإنما هي غوغائية صريحة وضجيج صارخ، يغطي على أصوات العقل والحرية والعدل والديمقراطية.
وإذا أمعنا النظر في هذه الدعائم التي تأسست عليها الدولة الستالينية، فسنجدها تنطبق على نظام الحكم الحالي في سوريا بناءً وأداءً، فهو نظام تأسس على النموذج الستاليني الفظ، وطبقه بحذافيره: فعبادة القائد الفرد أمر مفروغ منه في سوريا، وهو قائد يتشبث بالكرسي مع آمال عريضة لا تعرف أفقا ولا نهاية، حتى إن الصبية السوريين تربوا على ترديد الشعار الشهير "قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد". ثم جاء الشبل بشار ليرث الأسد حافظ، بنفس العقلية الستالينية المتكلسة، وتحوّل الشعار السخيف "قائدنا إلى الأبد.. الرئيس بشار الأسد".
أما المركزية الطاغية فيكفي أنك لا تستطيع أن تفتح دكانا للحلاقة أو النجارة في سوريا -ودعك من الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية- دون ترخيص من الأمن.
وأما التنكيل بالمعارضين فيكفي ما هزّ ضمائر العالمين من هدم مدينة حماة على رؤوس ساكنيها مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ومن الترويع والتجويع والمجازر والمقابر الجماعية التي نشاهدها اليوم في درعا وغيرها من المدن والبلدات السورية الأبية التي أبت الخنوع أو الخضوع لغير الخالق.
وفيما وصفه مراسل وكالة رويترز ومراسلة الجزيرة الإنجليزية من فظائع أثناء احتجازهما أياما بمقر المخابرات السورية كفاية للمستكفي، وما خفي كان أعظم.
وأما الدعاية الفجة فحدث ولا حرج، ويكفي أن بعض المتملقين من أعضاء البرلمان يرى الأمة العربية قليلة على بشار الذي يستحق في رأيه أن يكون قائد البشرية كلها. ويكفي ما تنضح به القناة السورية الرسمية من الكذب والفحش السياسي كل يوم.
كان ستالين يشبه بعض القادة العسكريين العرب في نرجسيته وفظاظته من دون ريب، فقد حوّل الأفكار الاشتراكية إلى إرث شخصي، كما حوّل عساكرُنا المشاعر العروبية الهادرة إلى أملاك شخصية وعائلية، وقتَّل ستالين معارضيه بوحشية بنفس الطريقة التي قتل بها حافظ الأسد في يوم واحد نحو ألف من السجناء العزل في سجن تدمر شمال شرق دمشق مطلع الثمانينيات، وقتل بها القذافي في يوم واحد نحو 1200 سجين أعزل في سجن بوسليم منتصف التسعينيات.
لكن قد يكون من الظلم أن نقارن ستالين من كل الوجوه بقطَّاع الطرق الذين يحكمون بعض الدول العربية، فهو لم يقتل شعبه بالقصف المدفعي العشوائي الذي لا يميز بين مدني وعسكري، بالطريقة الوحشية التي شاهدها العالم في مذبحة حماة عام 1982، حيث "قدر عدد الضحايا ما بين 30 إلى 40 ألفاً بينهم نساء وأطفال ومسنون، إضافة إلى 15 ألف مفقود لم يتم العثور على آثارهم منذ ذلك الحين، واضطر نحو 100 ألف نسمة إلى الهجرة عن المدينة بعدما تم تدمير ثلث أحيائها تدميراً كاملاً، وتعرضت أحياء أخرى لتدمير واسع، إلى جانب إزالة عشرات المساجد والكنائس ومناطق أثرية وتاريخية نتيجة القصف المدفعي"، حسب نص تقرير للجنة السورية لحقوق الإنسان.
كما أن ستالين -على فظاظته- كان رجلا وطنيا وقوميا دون تزييف، آمن بأمجاد روسيا وسعى لتحقيقها بالفعل لا بالقول، رغم الثمن الإنساني الباهظ لسياساته، فقد قاد بلاده في مقاومة بطولية شرسة كسر بها شوكة النازية التي كانت تسعى إلى احتلال أرضه واستعباد شعبه. كما قاد ثورة صناعية بخططه الخمسية الشهيرة، أخرج بها بلده من ذل التسول للغرب والخوف من سطوته العسكرية.
أما الستالينيون المزيفون عندنا فلا أرضًا حرروا، ولا صناعةً بنوْا، بل إنهم استنزفوا قوة الشعب وموارده في حماية أنفسهم، وحولوا قوة الدولة إلى حربة موجهة إلى نحور الشعوب، لا إلى نحور الأعداء. ويكفي النظر إلى الدبابات السورية التي صدئت في انتظار معركة التحرير الحاسمة مع إسرائيل، تتجه إلى درعا وبانياس وحمص، وتقذف الحمم ضد المواطنين الأبرياء الشرفاء، بدل التوجه إلى الجولان المحتل، ومصاولة العدو الجاثم على أنفاس السوريين هناك منذ أربعة عقود.
وقد ظن النظام الستاليني في سوريا أن وعودا جوفاء بإصلاحات شكلية وجزئية سترد الشعب إلى بيوته بعدما أمسك مصيره بيده، ونسي هذا النظام المتبلد أن الصراع بين الحاكم والمحكوم في الدول العربية اليوم لم يعد صراعا حول أداء السلطة، وإنما هو صراع حول بناء السلطة، بعدما أدركت شعوبنا ما كان ينبغي أن تدركه منذ أمد بعيد، وهو أن البناء الاستبدادي لن يقود إلى نهضة في الداخل ولا إلى عزة في الخارج.
فأي ترقيع في الأداء السياسي لن يقنع الشعوب اليوم بعدما قررت رفع الحجر المفروض عليها تماما، وهدم البناء الاستبدادي من القواعد، تمهيدا للإمساك بحرية قرارها واختيارها، وطرد منطق السيف وقانون الغاب من مسألة تداول السلطة إلى الأبد.
لقد دخلت الثورة السورية المجيدة خط اللاعودة، ولم يعد ينقصها سوى تصاعد الحراك الشعبي في قلب الثقل السكاني السوري بدمشق وحلب، لتصل إلى مستوى الكتلة الاجتماعية الجارفة، الضرورية لكل الثورات الشعبية.
فنهاية الدولة الستالينية في سوريا وشيكة ومحتَّمة، وسيليها تحرر من الإرث المُعتِم الذي راكمته على مدى أربعة عقود، تمامًا كما صفَّى خروتشوف مواريث ستالين، وأدان "عبادة الشخص" الستالينية. فليس لهذا النمط من الحكم المتكلس مكان في عصر الثورات العربية المجيدة، ولن يكون الشعب السوري المعتد بكرامته وتاريخه استثناء من الشعوب الطامحة إلى الحرية.
ولعل المآلات المحتملة لنهاية الدولة الستالينية الأسَدية في سوريا تسلك أحد المسارات الآتية:
المسار الأول- أن تبقى نواة النظام الصلبة متماسكة إلى النهاية، مع استمرار التآكل من الأطراف، حتى تصبح تلك النواة معزولة وغير قابلة للحياة. وعندها يدرك الذين ربطوا مصائرهم بمصير النظام طائفيا أو سياسيا أو مصلحيا أن لحظة الحساب قد أزفت، فينفضُّون من حوله زرافاتٍ ووحدانًا، فيسقط النظام على الطريقة المصرية والتونسية.
ويترجح هذا الخيار لدى من يرون أن لا فرق جوهريا بين بشار وماهر، وإنما هما يتقاسمان الأدوار، حيث يمثل أحدهما وجه الترغيب والاحتواء، والآخر وجه الترهيب والقوة. وقد بدأت بالفعل بوادر رفض العسكريين السوريين لقمع شعبهم، وهو ما يرجح هذا المسار.
المسار الثاني- أن تنقسم النخبة الحزبية والطائفية الحاكمة، ويسيطر الجناح المعتدل فيها على مقاليد الأمور، ثم يعرض هذا الجناح استجابة جزئية للمطالب الشعبية، بما يضمن لبشار الاستمرار عاما أو عامين، بعد أن يضع البلاد راغما على طريق الانتقال إلى الديمقراطية الحقة.
ويترجح هذا المسار عند من يرون أن هناك فجوة حقيقية بين بلاهة بشار ودموية ماهر، وأن جناح ماهر الذي يتقدم الصورة اليوم بوحشية قد يتم دفعه إلى الظل حينما تفشل آلة القمع، ثم يتقدم جناح بشار بحلول تهدِّئ الوضع وتمنح النظام فرصة التقاط الأنفاس أمام الاندفاع الشعبي الهادر والضغط الدولي المتصاعد.
المسار الثالث- أن تنقسم النخبة الحزبية والطائفية الحاكمة، مع سيطرة الجناح المتصلب فيها، من خلال انقلاب عسكري وأمني على بشار. وباستحواذ الجناح المتصلب في النظام على السلطة، يتم تبني حلول استئصالية أكثر، تفجِّر الوضع إلى حرب أهلية محلية وإقليمية، يمتد لهيبها إلى لبنان، ويصل شررها إلى العراق وإيران.
وفي هذه الحالة سيكون مسار الثورة السورية أكثر تعقيدا حتى من مسار الثورة الليبية، بحكم التداخل الإقليمي والطائفي فيه. ويترجح التدخل الغربي في هذه الحالة -ربما من الأراضي التركية- تأمينا للتوازنات الإستراتيجية في المنطقة من شظايا الانفجار السوري.
وفي كل الأحوال، فإن الدولة الستالينية في سوريا قد كُتبت نهايتها يومَ كتب أولئك الصبية من درعا على الحوائط "الشعب يريد إسقاط النظام"، فردَّ الأمن الستاليني الأخرق باعتقالهم. وهي نهاية قد تأتي هادئة بثمن معقول يحفظ لجميع الأطراف مستقبلا من التعايش في ظلال من العدل والحرية لا تستثني أحدا، وقد تأتي نهايةً مدوية مرتوية من الأحمر القاني. وليس غريبا على السوريين أن يدركوا ثمن الحرية ومعنى الوفاء لدماء الشهداء، على نحو ما صوره أحمد شوقي في قصيدته الدمشقية:
وللأوطـانِ في دمِ كلِّ حُـرٍّ يدٌ سلفتْ ودَينٌ مستـحقُّ
وللحريةِ الحمــراءِ بـابٌ بكل يدٍ مضرَّجـَةٍ يُـدقُّ