يمكن اختصار مشهد مقاومة مال المخزن الاستعماري الفرنسي، والأملازة، وجساسة الكوميات، أعوان المحتل وعيونه، في
مشاهد حفرت بوضوح، في الذاكرة الجماعية لأبناء الشهداء، وجيل المقاومة الذي يحاول الخانعون من أذناب الاستعمار، قرنا كاملا طيه ونسيانه، وهيهات أن يبلغ أحدهم مجد من استشهد، أو يطفئ نور من جاهد بنفسه، وماله، وقلمه.
فقد اعتمد الغزاة والخونة ، التنكيل بقيادات المجاهدين والمقاومين، وتهجير العلماء وغلق المحاظر، ومحاربة أهل القرءان واللهج بذكر الله، وتحكي الوثائق الفرنسية، التي رفع عنها الحظر، والمثبتة في مذكرات زعماء إدارة الاحتلال، كيف كانوا يستهدفون التجمعات المدنية بالإبادة الجماعية، رحلا وقرى آمنة، وكيف كانوا يقطعون رؤوس كبار المجاهدين، ويمثلون بهم لإرهاب أنصارهم والحاضنة الاجتماعية التي تمدهم بالزاد والراحلة.
أليس من المخجل أن لا يعرف جيل من الساسة والحكام، كيف استشهد المجاهد الأمير بكار ولد اسويداحمد13 ابريل 1905م ، والشريف سيد ولد ملاي الزين، قائد وشهيد معركة تجكجة الفاصلة في 12/05/1905
ولمادا لم نكرمهم خلال سبع وستين سنة من رفع العلم.
سبع وستين سنة يوزع فيها الفرنسيون الأوسمة، والأعطيات على مقاتليهم وأعوانهم ومخبريهم، ولا يستحي من يرد على أحواضهم
من أعوان المخزن قديما وحديثا.، جواسيس السفارات الأجنبية.
*****
لقد بينت مرحلة ما بعد حرب الصحراء وانقلاب العاشر يوليو، بروز الأزمة المركبة، التي تجسدها نخب تعاقبت على كل من الإدارة والمدرسة، والبرلمان، والحكومة، والتدبير السياسي، والتدبير الديني .، منذ الاندماج في حزب الشعب، إلى الاصطفاف والتجمد في صفي الأغلبية والمنتدى؟
كانت ولا تزال أزمة بنيوية، أظهرت أن التيارات الوطنية التي كانت تناصر برامج سياسية يسارية أو يمينية، قد استطاع المخزن الوارث لإدارة المستعمر، والمترجم في النظم الشمولية التي استولت بشتى الطرق على الشأن العام، أن تروض أغلب هذه القيادات، وتحولها إلى مخبرين متجاورين، أو كانتونات متصارعين ، يتحالفون ويتقاتلون بلا أهداف محددة، وبلا مآلات مقنعة.
وعلى عكس شهداء مرحلة المقاومة والتحرير، استعبدت الأنظمة الفردية بواسطة التعيين والاغراء والكسب ،نخبة مريضة ومتشنجة، لم تشكل مدرسة، ولم تقدم صناعة ، ولم تحم هوية ، ولم تأت بعقول منتجة، وبدل أن نكتشف أننا أمة، وحضارة، وقيما مشتركة استبعدت قيادات متنورة حتى ودعناها الي القبور أو الي البطالة أوالمهاجر...
وتسلمت قيادات الولاء لا الكفاءة، ملفات إدارة المرافق الحيوية لقطاعات التنمية، والحكامة في مجالات الخدمة العمومية ، وأصبحت مجانية التعليم والصحة والنقل دروبا من الخيال.
غير أن أخطر ما أنتجته هذه الحقب السيزيفية، حقب النهب واستنساخ تجارب الأفكار المستوردة، هوبروز نخبة متغولة وفاشلة، نخبة عاجزة وجاثية ، استولت تدريجيا على مرافق الدولة العميقة، نخبة تستهزئ بالدين وتتميز غيظا عند ذكر علماء التقى وشهداء الوطن، وتسب علنا مقدساتنا، وتحرق كتبنا، وتروج للفواحش، وتسخر من المصلين وأئمة الهدى.
نخبة فقيرة في مجال القيم الأخلاقية والنضالية ، لا تاريخ لها في النضال، وليس لها أدنى معدل في الأخلاق
وهؤلاء اللمتاجرون الفجار، حولوا السياسة والإدارة والقضاء والإعلام إلى مرافق بلا هوية وبلا مستقبل، كيمياء تطرد كل من له كفاءة، وتمتهن كل من له أخلاق، وتتجاسر على كل من له وازع ضمير أو مثقال ذرة من المثل..
وبواسطة هذه الموميات المنسلخة من أي رؤية أومشروع نضالي، دمرت تجارب بناء الأحزاب والحكومات الوطنية الحديثة ، ونشأت أحزاب ونقابات المصالح الفردية والعشائرية والطائفية.، وأصبح بإمكان المتسلقين تأميم نضال المراحل، وتضحيات المعذبين و المهمشين عبر أهم الحقب.
وخلال رحلة التائهين، ظهرت أربعة أخطار أصبحت اليوم مهددة للوحدة الترابية، ولمشروع الإسلام السني المالكي وفقه المقاصد، وللوحدة الوطنية، وللعقد الاجتماعي ثمرة عناق الحكامة والديمقراطية..
وإذا كانت العشرية الأخيرة مهدت لظهور حكم لم يقبل باطروحات كل من دعاة الانفصال على أساس العرق والانتماء لثقافة المستعمر وهويته، ولم يرضى بمشروع السلفية الجهادية التي تفجر الأبرياء وتكفر أهل القبلة ، ولم يقبل أن يجثو البلد أمام تحكم لفق من الشيوعيين أمموا لعقود السلطة والثروة، فان الخوف كبير من الاستضعاف الذي بدأ ينمو ويسمح باعطاء المشروعية لمشروع الاستهزاء بحضارة أبناء الملثمين وبناة المرابطين، وعلماء وصلحاء الشناقطة ، أخطر ما يهدد كيان الوطن الموريتاني، ودستور التعايش والسلم الأهلي.
وهو ما يشتم من جهة من تسليم تشكيلات المعارضة لمفاتيح الشأن السياسي لمن يروج لخطابات الكراهية والنفي للآخر، ومن جهة أخرى لانشغال أطراف الأغلبية بنفي بعضهم للآخر، وتحميله نعوت المرض والفشل والانكفاء والتخوين.
أليس من المخجل أن تتراجع الأغلبية المتصارعة، والمعارضة المتمترسة لصالح حراك يقوده من يستهزئ بمشروع أمة شرف اخاء عدالة؟
أليس من غير المقنع أن نرى كل الأحزاب والشخسيات الوطنية في صف المعارضة تتسابق لاعلان الولاء لمشروع البشمركة و خطاب الكراهية الذي أجمع الموريتانيون بمسيرات مليونية على رفضه عند الاستهزاء بمذهب امام دار الهجرة؟
لقد أزفت ساعة المكاشفة، وحانت ساعة المصارحة بدون غمط للحق، ودون ارتهان للخوف.،نحن اليوم اما أن نرتهن للخوف فنشرع لسعد حدادأن يحرق بيروت ، ونسمح لابرهة أن يهدم الكعبة، أو نبني جيل مقاومة يحمي البيت وحرية الفكر
وإلا فلماذا ولدتم، ولأي هدف عشتم ، ومن نحن وماذا نريد؟