"..نحن ننتمي لأوطان لا تلبس ذاكرتها إلا في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى، ثم سرعان ما تخلعها عندما تنطفئ الأضواء وينصرف المصورون، تماما كما تخلع المرأة أثواب زينها..."
هكذا حدثت الكاتبة الجزائرية الجميلة، أحلام مستغانمي، عن تلك العلاقة المشبوهة التي أصبحت تربطنا بذاكرتنا، وهكذا فضحت بنت مدينة الجسور المعلقة،
قسنطينة الحنين، في رائعتها الشهيرة "ذاكرة الجسد"، درجة الرخص والسفالة، التي بتنا نتعاطى بها مع تلك الذاكرة،
الأمم والشعوب، التي لا تقدر ذاكرتها حق قدرها وتحتفي بها كما ينبغي، ينتهي بها المطاف دائما في القاع، جسدا بلا روح،
..في يوم الأربعاء التاسع والعشرين أيار/مايو 1968، جثم على صدر مدينة ازويرات مساء كئيب، مثخن بدموع وجراحات لا ضفاف لها، هناك، بعيدا في أقصى الشمال وأقساه، وعلى صخور تلك الأرض العمالية الطيبة، حيث تطلع الشمس دائما مبكرة عن وقتها، وتغرب دائما متأخرة عن موعدها، نقشت دماء الشهداء، فصول حكاية وطنية طافحة بالعزة والكرامة والشهامة:
صامبا عبدولاي، السالك ولد بلال، يب ولد الطالب، محمد ولد منه، سليمان سانكاري، اعل ولد ميه، محمد المختار ولد جدو، سي عمار ولد اميزين... تلك أسماء الشهداء الذين ارتوت الأرض بدمائهم الطاهرة حتى الثمالة، وجعلوا الوطن يبيت ليلته تلك، وكل الكؤوس من حوله مترعة،
هم الذين واجهوا الرصاص بصبر وجلد ورباطة جأش، "وما وهنوا!"، هم الذين ساروا إلى ذرى المجد بصدور عارية وبأيادي وهامات مرفوعة إلى السماء وبأرجل ظلت منغرسة في الأرض حتى رمقها الأخير، "وما وجلوا!"، هم الذين قالوا: سحقا للظلم والظالمين، "وما سكتوا!"، هم الذين رفضوا العيش أذلة داخل وطنهم وعلى أرضهم، تتحكم في مصائرهم حثالة من الأشرار الصغار، "وما بدلوا!"، هم الذين غادروا الدنيا دون أن يودعوا الأهل والأحبة والرفاق، "وما حزنوا!"،
الحياة مضحكة أحيانا!، الوحدة الوطنية التي دخنا نحن وراءها كل هذه السنين، تحققت في أبهى صورها في ذلك المشهد الباكي الحزين، حين تعانقت دماء الموريتانيين كل الموريتانيين، وأي عناق!، لم يتطلب الأمر لا شعارات طنانة، ولا خطابات مضجرة يلقيها "الزعيم"، تجعل الناس ينامون من شدة القهر، ولا أغاني وطنية بكلمات مثيرة للشفقة، ولا قصائد حماسية مثقلة بالزحافات والعلل والخرافات،
وحدهم الرجال المخلصون هم من يصنع التاريخ ويصلح انبعاجاته، وهم وحدهم من ينثر اللهفة والدهشة والورود على عتباته، أما الذين كان همهم الوحيد دائما، أن يحرقوا كل المراسي ويغرقوها، حتى لا تجد الحكايات الجميلة مكانا ترسو إليه، حين تعود من سفرها الطويل، فأولئك لم يفلح سعيهم يوما،...وهل يستوي الطهر والعهر؟!
..في اليوم التالي لتلك المذبحة الفظيعة، وكانت دماء شهدائنا لا تزال دافقة وحارة، ستخرج علينا الرواية الرسمية بما هو أشد من الرزء ذاته، ستقول تلك الرواية المهلهلة، إنها أمرت فقط، بإطلاق النار على أرجل المتظاهرين، "ما هذا الحنان المفرط!"، وأنه صادف أن بعض هؤلاء كانوا منحنين لالتقاط الحجارة، فأصابهم الرصاص في مقتل،
يا باطل!...الأحرار لا ينحنون ولا يطأطئون رؤوسهم أبدا، حتى حين يلتقطون الأشياء من على الأرض، يفعلون ذلك وهاماتهم تطاول السماء...تلك صفتهم وذلك مثلهم في جميع كتب التاريخ،
..بعد مرور ست سنوات ونيف على فاجعة ازويرات، وبالتحديد في يوم الخميس 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1974، سيتم تأميم شركة (ميفرما) وتحويلها إلى الشركة الوطنية للصناعة والمعادن (سنيم)، ستقام الأفراح والليالي الملاح، لكن أحدا لن يأتي على ذكر سيرة أولئك الشهداء، سيبخلون عليهم بأبسط وأتفه الأشياء، سيحاولون خنق ذكراهم داخل السجلات والتقارير والدفاتر، لكن هيهات ثم هيهات، الحكايات الجميلة لا يمكن أن يطويها النسيان،
ستخلد ذكراهم المجيدة، رائعة شاعرنا الفحل أحمدو ولد عبد القادر،"رسالة العجوز"، حيث تبكي "شيخة من الصحراء"، فقدان وحيدها "المصطفى"، بكلمات تقطر دما ووجعا وألما:
مختار يا رجل البلاد مختار يا بدر السنين،
ماذا دهاك وأي شيء قلته للآثمــين،
نطق المدافع ضدنا في صالح المستعمرين...
..واسمع وقائع قصتي وافهم صراخ اليائسين
أنا شيخة من عالم الصحراء والأفق الحزين،
حيث الطبيعة فظة حيث المشاكل لا تلين،
قد كان لي ولد يسمى المصطفى نجل الدمين...
..بالأمس بالأمس القريب قرأت عنه رسالتين،
إذ قيل إن رصاصة شقته بين المنكبين،
أسفي عليه وحسرتي وتوجعي عبر الأنين...
حدث ذلك، قبل تشيخ قصائد شاعرنا الفحل ونشيخ نحن معها، وقبل أن تسرق منا "أزمنة الضياع" أغلى ما لدينا، أشعارنا وحكاياتنا الجميلة، أحيانا يلح علي سؤال: أيهما كان أقسى على شهداء مايو، رصاص الغدر، الذي اخترق أجسادهم الطاهرة، في ذلك المساء الباكي الحزين، أم رصاص النسيان، الذي أمطرناهم نحن به، بلا شفقة، طيلة كل هذه السنين؟!
..وحدها الحكايات الباذخة، هي ما يحتفي به التاريخ، يفتح لها ذراعيه ويعانقها بحرارة ثم يزرعها بحفاوة، مزارات جميلة ودافئة على شرفات الذاكرة وداخلها، وأما القصص البائسة والمثيرة للشفقة، فيلفظها بعيدا ويخاصمها، حتى ولو جرى تسمينها دهورا، داخل تلك الحظائر "الإعلامية" التافهة والمضحكة..