في7 من سبتمبر2013، أطل علينا الرئيس الصيني شي جين بينغ من جامعة نزارباييف بكازاخستان معلنا عن تبني الصين لمبادرة "الحزام والطريق"، وهي مبادرة تستهدف إحياء طريق الحرير القديم البري والبحري، وذلك بعد مرور أكثر من 2000 عام على اكتشافها على يد السيد تشانغ تشيان (Zhang qian) مبعوث الإمبراطور السابع لمملكة هان الغربية سنة 138 قبل الميلاد.
هذه المبادرة تعيد إلى الأذهان ذكريات الماضي العربي المجيد على طريق الحرير، الطريق التي كانت مسرحا لأحداث تاريخية غيرت وجه العالم، فهي شاهدة على خطى غان يينغ (Gan ying) مبعوث الملك الرابع لمملكة هان الشرقية (25 م – 220 م) إلى روما، الذي يعتبر أول صيني وطئت أقدامه بلاد العرب سنة 97 م، حيث تؤكد المصادر التاريخية الصينية وصوله للخليج العربي(الفارسي) والعراق، هذه الرحلة على الرغم من عدم وصولها إلى روما، لكنها عززت فتح الطريق الذي يربط بين تشانغآن عاصمة مملكة هان الغربية (مدينة شيآن حاليا بمقاطعة شنشي) وبين الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، والذي عرف باسم "طريق الحرير"، سنة 1877م على يد العالم الجغرافي الألماني فرديناند فون ريشتهوفن، الذي كات بلاده تسعى إلى إنشاء سكة حديد تربطها بإقليم شاندونغ (Shandong) الصيني مروا بدول آسيا الوسطى، وذلك بعد ما ضيقت بريطانيا العظمى الخناق عليها في ظل التنافس الحاد بينهما على الموارد والأسواق العالمية.
طريق الحريرشاهدة أيضا على خطى رسول ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 651 م إلى مملكة تانغ الصينية (618 م -907 م) أثناء حكم إمبراطورها الثالث لي تشي (Li zhi)،وقد سمح الملك الصيني للمسلمين من عرب، وفرس بالإقامة في الصين، وممارسة التجارة، وذلك بعد ما لمس التقارب الكبير بين قيم الدين الإسلامي الحنيف، وتعاليم الثقافة الصينية التقليدية خاصة كونفوشيوسية، والتي كانت العمود الفقري للثقافة الصينية بل وصل الأمر في بداية القرن التاسع إلى وجود مجتمعات مسلمة قائمة تعيش، وتتعامل وفق مبادئ الشريعة الإسلامية في المدن الساحلية الصينية مثل مدينة قوانغتشو، ويتم تعيين قضاة مسلمين لهم من قبل الملك الصيني، وهذا ما سمح بتعزيز التجارة عبر طريق الحرير خاصة تجارة الحرير، الذي كان يستخدم كعملة بدل العملة النحاسية الملكية في المناطق الحدودية.
وخلال منتصف القرن الثامن ميلادي كانت طريق الحريرعلى موعد مع حدث غير وجه التاريخ، ففي ظل القلاقل التي صاحبت نهاية حكم الأمويين أستغل الصينيون الفرصة وتوغلوا غربا، وتمكنوا من إخضاع بعض المناطق المهمة الخاضعة لنفوذ الخلافة، ويعكس حجم إنفاق مملكة تانغ الصينية العسكري على قواتها المرابطة على ثغور آسيا الوسطى حجم تلك التوترات، حيث قفزهذا الإنفاق من 2 مليون قوان سنة 713م (guànقوان سلسلة لربط النقود على شكل تسبيح وتحوي ألف قطعة نقدية ) إلى 10 مليون قوان سنة 741 ثم 15 مليون قوان سنة 755 م، ويشكل هذا المبلغ نصف إجمالي إيرادات مملكة تانغ البالغ حوالي 30مليون قوان.
لكن ذلك لم يمنع الخلافة من خوض المعركة التي غيرت وجه التاريخ، وذلك بعد استتباب السلطة للعباسيين، حيث زحف الجيش العباسي بقيادة زياد بن صالح رحمه الله، بينما تولى قيادة الجيش الصيني القائد الكوري القومية قاو شيان تشى (Gao xianzhi) ، والتقى الجيشان بالقرب من نهر طلاس (نهر يقع في قرغيزستان حاليا) الذي تسمت المعركة باسمه في يوليو سنة 751 م، وعلى الرغم من كون هذه المعركة كات نهاية الفتوحات الإسلامية في الشرق إلى أن النصر فيها كان حليفا للعرب والمسلمين، حيث انتهت المعركة بهزيمة ساحقة للجيش الصيني، حوالي 30 ألف بين قتيل وأسيرحسب بعض المصادر الصينية.
معركة نهر طلاس كانت نقطة تحول مهمة جدا في تاريخ طريق الحرير، حيث أنها المعركة الوحيدة بين أقوى امبراطوريتين في ذلك الزمان (الخلافة العباسية و امبراطورية تانغ الصينية)، المعركة الوحيدة أيضا تاريخيا بين العرب والصينيين ومن أهم نتائجها :
1) قتل الحلم الصيني في السيطرة على آسيا الوسطى، ونهاية نفوذها وتواجدها العسكري هناك؛
2) تقويض تجارة الحرير، وانحسار ازدهار التجارة عبر طريق الحرير ؛
3) خروج تأثير الثقافة الصينية من آسيا الوسطى إلى يومنا هذا؛
4) زيادة أواصر ارتباط العرب والشعوب التركية، وانصهارها وتمهيد الطريق لدخول كافة شعوب آسيا الوسطى في الإسلام؛
5) كانت السبب المباشر للقلاقل التي بدأت تنتشر في أرجاء الامبراطورية الصينية خاصة تمرد القائدين العسكريين لوشان(Ān lù shān) وشي سيمينج (Shǐsīmíng) على أسرة تانغ الحاكمة سنة 755م، والمعروف في التاريخ الصيني با (安史之乱 755-763) الذي يعتبره المؤرخون الصينيون بداية نقطة التحول الذي قاد إلى انهيار امبراطورية تانغ العظيمة.
لكن أهم نتيجة لهذه الحرب في اعتقادي هم الأسرى الصينيون، الذين عن طريقهم تم نقل الاختراعات الصينية الأربعة القديمة ( صناعة الورق، فن الطباعة ،البوصلة، البارود) إلى العالم العربي، وخاصة صناعة الورق، حيث تم تأسيس أول مصنع للورق في بغداد سنة 794 م، ومن عاصمة الرشيد تم نقل أسرار صناعة الورق إلى كل من دمشق، والقاهرة ثم، الأندلس ومنها إلى أوربا.
ويعد الأسير الصيني المؤرخ دو هوان (Dù huán) أشهر أولئك الأسرى، حيث تعتبره المصادر التاريخية الصينية أول صيني وطئت أقدامه أرض المغرب العربي وربما أفريقيا، وتعد مذكرات أسفاره (经行记) التي كتبها بعد عودته إلى الصين سنة 762م، أول مصدر صيني موثوق يصف بشكل دقيق حياة العرب والمسلمين في القرن الثانى الهجرى.
تاريخيا يعد نصر العرب والمسلمين في معركة نهر طلاس سنة 751 م السبب المباشر وراء فشل الصين في مواصلة بسط سيطرتها على آسيا الوسطى رغم إنفاقها نصف إيراداتها؛ مما أدى إلى نهاية نفوذها، وتواجدها العسكري هناك، وانحسار تأثير ثقافتها إلى يومنا هذا. و إن كانت صناعة الورق التي انتقلت إلى العرب عبر طريق الحرير تعد المساهة صينية في بزوغ العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فإن الحكمة الاسلامية تعد مساهمة عربية في تشكيل قاعدة قوية لسلام بين العرب والصينيين دام لعدة قرون، وهذا التلاقح الحضاري الاسلامي العربي - الصيني كان ومازال وسيظل مصدرا للسلام العالمي.