لنرحل نحن..!! / حبيب الله ولد أحمد

altليس من اللائق أن نبالغ في إحراج رئيسنا بمطالبته بالرحيل(لاحظوا أن مصطلح "الرحيل" لم يعد مستخدما حتى في اللغة الاجتماعية عندنا لأسباب تتعلق بالبؤس الاقتصادي)، والتخلي عن الرئاسة، فليست لدينا مشكلة مع سيادة الرئيس وخلافنا معه لا يخرجه أبدا من كونه مواطنا موريتانيا، نحب له ما نحب لأنفسنا..و في حياتنا اليومية تعرفون أن أحدكم يتحرج من تكرار طلب ما، لأكثر من مرتين، حتى لو كان طلبا موجها ل"بخيل" يقال عادة إن "طلبته عبادة"..!!

اتركوا الرئيس وشأنه، أوعلي الأقل طالبوه بشيء غير الرحيل(أخذ راحة مثلا أو التفرغ لتربية "الكنغز" أو لكتابة مذكرات)...ما رأيكم أن نجرب نحن - كشعب موريتاني - الرحيل عن الرئيس وليس العكس؟!

 

نعم لنرحل نحن، كما كان آباؤنا وأجدادنا يرحلون...سيقول المخلفون منا "إلى أين الرحيل والجفاف يحاصرنا جنوبا وشرقا، وشبح العنف والإرهاب يتربص بنا شمالا، وليس لنا وطن ولا ملاذ خارج منكبنا هذا"؟!

 

"ما أصعب أن نفارق أرض الآباء والأجداد، وملاعب الصبا (وأنه غرة الأوطان أجمعها/ فأين عن غرة الأوطان نرتحل؟!)...وما أصعب أن نسير نحو المجهول، هائمين على وجوهنا كأصحاب "التيه"؟!...سيقولها بعضكم - بعيون دامعة- والنفق يمتد أمامنا، ونحن راحلون عن رئيسنا وحكومته وحزبه وأغلبيته وأمنه و"شبيحته".

 

صحيح، ولكن ما الذي بوسعنا أن نفعله أكثر من الرحيل عن نظام لا يريد أن يرحل عنا(لا تغريه حتى مشترياته العقارية والتي بلغت قيمتها مليارات الأوقية في بعض الممالك المجاورة بالرحيل)؟!...لنتجلد مودعين (فقد وجب الرحيل عن الجليلى)، مهما دمعت قلوبنا، وجزعت قلوبنا، وضاقت بنا أرضنا بما رحبت،وامتدت أمامنا دروب الغربة الموحشة...لنعتبرها هجرة (إلى "الحبشة" أو إلى "الشمال" أو كتلك التي تقوم بها الطيور بحثا عن مواطن الدفئ) ...لنعتبرها خطا علينا أن نمشيها.. فلنمشها..!!

 

لنذهب غربا إلى البحر...وهل يوجد شخص في العالم يرفض الماء والملح؟!...لا نريد أن نغرق، ولن نذهب لننتحر...كلا سنغتسل بمياه البحر، من يدرى؟.. قد تلامس أجسادنا سمكا حرمتنا منه الاتفاقيات الجائرة (اتفاقية "الصيد"مع "الصين")...و حتى لو غرقنا، فلن تفترسنا الحيتان، فستتعفف وتترفع عن نهش لحومنا التي بلا "سعرات حرارية"، وبلا قيمة غذائية من أي نوع... وحتى لو ابتلعنا الحوت، فلدينا من صبر "أيوب" وشجاعة "يونس" ما قد يعيننا على البقاء في جوفه لأطول فترة ممكنة، فلحظة الهروب عن الظلم، تضيق كل الخرائط، وتفقد الأرض تضاريسها، و تنمحي المسافات الفاصلة بين العذاب والرحمة، ولا يكون هناك متسع من الوقت للتفكير في الفرق بين رحم أم حنون، وجوف حوت شرس متوحش في ظلمات البحر..!!

 

قد نجد صعوبة في التفاهم مع السمك لبعض الوقت، (منذ الاتفاقية المثيرة للجدل مع الصينيين قرر السمك بعد نقص وزنه وتصغير عينيه وتسبيط شعره الإقبال على تعلم "اللغة الصينية" وهذا ما جعل الإذاعة الصينية تبث على "الأف أم" في عاصمتنا حفاظا على مستقبل أجياله، وحتى لا يتم تهميشها في وطنها الجديد البديل)...لا يهمنا أمر السمك كثيرا بقدر ما يهمنا الوصول إلى أفق بلا ظلم وبلا دموع...نعيش فيه على الفطرة...متساوين حتى في الجوع والخوف والضعف وقلة الحيلة والهوان على الناس..!!

 

لنرحل إذن في نفرة جماعية(مستحضرين النفرة الخالدة للحجيج إلى المزدلفة)...سنحمل معنا ما خف حمله...أما ما غلى (في هذا الزمن الأغبر لم نعد نعرف هل نكتبها "غلا" بألف طويلة أم "غلى" بألف قصيرة فتاريخنا مع الأخطاء الإملائية غير قابل للتصحيح) ثمنه فلا نملكه أصلا ولا فرعا..ليكن النفير منظما...لنسر سير ضعفائنا.

 

سيكون يوما مشهودا في تاريخنا...سيستغرق تجميعنا-من مختلف أنحاء البلاد- شهرا تقريبا...وسنرحل غربا ذات مساء ناعم جميل...سنكون في حدود الثلاثة ملايين...لن نترك خلفنا إلا الرئيس وحكومته وحزبه وأغلبيته وأمنه و"شبيحته"...سنحمل أغصان الزيتون، وسنطير حمامات لليمن والسلام والحب...ستكون مسيرة هادئة ...لن نطلب من الراغبين(من إخوتنا الذين نزغ شيطان السياسة بيننا وبينهم) في البقاء الانضمام إلينا...سنتلوا آيات الحفظ، وسنكتب على جبين وطننا شيئا كذلك الذي تعودت أمهاتنا كتابته على وجوهنا، عندما كنا نتغرب أو نسافر طلبا للعلم، أو بحثا عن المال...ستغرورق أعيننا بالدموع حد البكاء على وطن وليناه ظهورنا يأسا وهروبا وحنينا ولهفة...لن نحمل من متاع الدنيا إلا ما نسد به رمق الأطفال والنساء والشيوخ، أما الشباب والرجال فلمثل هذه المواقف خلقهم الله، كما خلق آخرين ل"قصعة من ثريد".

 

سنترك للرئيس وجماعته المؤسسات والبنوك...سنترك لهم الذهب والفضة والحديد والنحاس والخيل المسومة والقطعان والعقارات...سنترك لهم الغلال والظلال...سنتركهم وراءنا ليشبعوا نهبا ونهما (سنريح الرئيس من الصحافة البائسة والشعراء الأكثر بؤسا)...لن نذهب إلا بكرامتنا...لن نحرق وطننا...لن نثور على رئيسنا وحكومتنا...لن نستعين بالأجانب، ولا حتى بالأشقاء... لن نستنبت ربيعا دمويا كاذبا...لن نزرع أوهام الثورة في أدمغتنا، سنستنسخ حكمة المرأة القديمة، التي حاولت إحدى جاراتها أن تنتزع منها ولدها الوحيد، قرة عينها، وخلاصة حياتها...فرفع النزاع حينها إلى القاضي فقال للمرأتين وهو يستدعي "السياف" بملامح صارمة: "لا بأس مادمتما لا تريدان الصلح فقد قررت قتل هذا الطفل وقطع جسده نصفين تذهب كل واحدة منكما بالنصف الذي تختاره"...هنا صرخت المرأة الحكيمة المظلومة والأم الحقيقية للطفل وهي تبكى بحرقة مشيحة بوجهها عن جارتها الظالمة: "لا يا سيدي القاضي دعها تذهب به...لا أريد أن يصيبه مكروه..هو ابنها فاتركه لها حيا"...أدرك القاضي بعقله الراجح وبصيرته الثاقبة أن أم الطفل الحقيقية لا يمكن إلا أن تكون تلك التي ترفض أن يصيبه مكروه، فقد تتحمل أن تذهب به امرأة غريبة مغتصبة، لكنها لا تتحمل أبدا رؤيته جريحا أو قتيلا، فأمرها باصطحابه وعاقب جارتها الماكرة...

 

نحن أيضا - وبنفس حنان تلك الأم - نرى أنه إذا كان لابد لوطننا من أن يحترق، أو يحتفظ به الرئيس وجماعته، فإننا نتركه للرئيس وجماعته ونرحل نحن، فلا نتحمل أن نرى وطننا جريحا أو محترقا..(لسنا مستعدين لتجزئة وطننا ولا لكتابة تاريخه القادم بالدم والنار والنعرات الضيقة والفوضى)

 

إنني واثق كل الثقة من أن الرئيس عندما يرى جموعنا تتدفق في مشهد مهيب نحو الغرب - ومعها شمس الغروب تناطحها أمواج النقع المتلاطمة - ولسان حالنا يقول" إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا/ ألا تفارقهم فالراحلون هم" ويلتفت حوله فلا يرى غير سياسي منافق، أو رجل أعمال جشع، أو مثقف منبطح، أو عسكري انتهازي أوشيطان مرد على أن يزين للرؤساء سوء أعمالهم، سيصرخ فينا بأن نعود(بأن نرجع إلى حقلنا ونغرق في سابغات المنى) ونجلس معا، لنقرر- بصدق وشجاعة ومسؤولية - مصير بلدنا ومستقبله...وسيكون الجو- ساعتها- حميميا مفعما بالسكينة...وسنسمع من الرئيس- صراحة وبصدق وبلهجة حنون – أنه لا فائدة في البقاء بعدنا وأن الأمر أمرنا وأنه إذا كان الخيار بين رحيل أقل من 1000 شخص ورحيل شعب بأكمله، فإن منطق الأشياء يقول إنه من الأفضل بقاء الشعب، ومن الأروع أن نضحي بالألف من أجل مستقبل الشعب والوطن...

 

ساعتها أيضا قد تحدث المعجزة... فيرضى الشعب عن الرئيس، ويرضى الرئيس عن الشعب، ويرضى الوطن عن الجميع، ويصبح مطلب "الرحيل" مخالفا لنص الدستور، و يحل محله طلب مشروع بأن يبقى الوطن للجميع وفوق الجميع ، ويبقى الجميع للوطن الموحد القوي الجامع.

30. نوفمبر 1999 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا