شيخنا وإمامنا ووالدنا, ها نحن يا سيدي بداه نبكيك بنفس الدموع الحراء التي بكينا بها ومنذ أسبوع الشيخ محمد سالم ولد عدود, نبكيكما في ذروة عام الحزن, هذا الذي نعيشه دموعا ومآتم وشهقات ومصائب لا تقف عند حدود الصبر, ولسان حالنا ينشد مع البر عي:
"ولم يكونا حبيبين افتقدتهما في غربتي
بل فقدت السمع والبصرا"
سيدي.. بداه ولد البصيري.. أيها الإمام العادل الذي "عدل" ف"أمن" ف"نام".. أيها الورع الزاهد, التقي النقي الطاهر, كيف ومن أين لنا بدموع نبكيك بها, وقد جفت مآقينا وتقيحت بكاء وفجيعة بك وبشيخنا ولد عدود.؟
ما أروع هذه الصحبة التي جمعت بينكما حتى في رحلتكما الأخيرة باتجاه الفردوس, ما أروعكما وقد سلكتما معا نفس الدرب الموصل إلى جنة الخلد
سيدي بداه.. أيها الشيخ الرائع المتواضع الأواه, دعنا نقف لتوديعك وقفة جموع أخرسها هول المفاجأة.. وقفة مبللة بالحزن والدموع والأسى على رجل عرفناه عابدا نصوحا, لا تأخذه في الحق لومة لائم..
بماذا سنشهد لك أيها الرجل الراحل بهدوء وثقة على دروب جنة الخلد المستحقة؟
بالشجاعة, بالعلم, بالإخلاص, بالتقوى, بالقناعة, بالتواضع؟؟!!.
لنقل ما شئنا من الخصال الحميدة,التي أنت بحق موئلها وابن بجدتها وجوادها المنطلق ومنذ الأزل جودا وسخاء وتعميرا للأرض وإقامة لأركان الدين الحنيف ومنهاجه القويم وسنته المطهرة, حيث لا غلو ولا تطرف وإنما الاعتدال والوسطية والمحجة البيضاء.
إمامنا وشيخنا.. سنفتقد فيك رجلا عالما, صابرا محتسبا, مرابطا مجاهدا, مارس وبشهادة كل الموريتانيين أفضل الجهاد المتمثل في قول "كلمة حق أمام سلطان جائر" ولقد قلت عبر تاريخ الدولة الموريتانية الحديثة التي كنت لها أبا نصوحا, وعالما محبوبا ومرشدا اتسمت فتاواه بالقوة والوسطية ولكن أيضا بالجرأة والتـأصيل" كلمات حق" عديدة أمام عدة "سلاطين جائرين" تعاقبوا على حكم البلاد..
ألم تصرخ في وجوههم بصوتك الجهوري الوادع ,الحنون الطيب, المتدفق قوة, بأن يطبقوا شرع الله في أرض الله على عبادة الله؟!
ألم تنههم أيها الإمام عن سجن العلماء والأئمة والدعاة؟
ألم تدعهم ومن أرفع المنابر وأوسعها إلى العدل والإحسان, والاستقامة والاهتمام بعامة الناس؟
ألم تنههم عن الظلم والفسوق والعصيان؟
ألم تخلق لنفسك مكانا عليا في نفوس الجميع, فكنت الإمام الوحيد والأوحد الذي أجمعت عليه الأمة الموريتانية كلها ورأت فيه إماما لا يجامل, ولا يغضب لغير الله, ولا يسكت عن قول الحق مهما كانت الظروف؟
نعم أيها الإمام.. فأنت لم تكن إماما متسيسا.. لم تبع الفتاوى ولم تتحزب ولم تحول محراب المسجد إلى قطعة ديكور منسية في قصور الأمراء ولم تحول الدين إلى سلعة تباع هنا وتشترى على طريقة "الوجبات الجاهزة"
لقد رفضت دائما بيع الفتاوى الجاهزة ولي أعناق الآيات والأحاديث والسنن وتطويعها لتصبح في خدمة هذا النظام أو ذاك.
. كان النور الذي يملأ قلبك ونفسك, مع علمك المتوارث الأصيل, يمنحانك دائما القدرة على قوة الطرح الديني وشجاعته ونجاعته فأخرجت بهما الدين فكرا ومنهجا وعقيدة من قباب القصور إلى صفوف العامة عبر منابر الدعوة والإرشاد..
كنت ترى الدين ملة واحدة, والمسلمين أمة واحدة ,وكنت ترفض تفرقة المسلمين فكريا ومذهبيا وعقائديا, ونذكر لك شجاعتك عندما حاولت بعض الأنظمة تأليبك على جماعات الدعوة والتبليغ تحت يافطة" مكافحة الإرهاب" واستصدار رأي منك بأنها جماعات مشبوهة تهدد المجتمع وتقاليده.. يومها ارتفع صوتك بالحرف "من لم يخرج" مع تلك الجماعات فلا أقل من أن يكف لسانه عن سبها والتشنيع عليها"..
كنت تقول دائما رأيك المسموع, والمدعم بعلم لا نهاية لحدوده بالدين أصولا وفروعا على الملإ و في رابعة النهار, لذلك أحبك كل الموريتانيين الذين أصبحت لهم أبا وإماما ومرجعا فوجدوا فيك الشيخ الذي علمهم, والأب الذي ضمهم إلى حضنه الدافئ, والمجن الذي احتموا به من متاهات الضلال والكفر والظلامية..
سيدي الإمام رحلت عنا ولكنك باق ذكرا لا ينقطع ومآثر لا تختفي وحضورا أبديا لا تعفيه "الروامس والخلاء"..
أنت باق بيننا ويا لروعة ذلك البقاء.. "هذا مسجد بداه" وهذه "محظرة بداه".. أي ذكر أبقى وأخلد من ذكر رجل ارتبط اسمه أزليا بمسجد ومحظرة؟؟
أنت باق في دنيانا هذه بقاء خصالك الجمة, وأنت الذي رحلت عنا قنوعا متعففا, لا تملك الأموال والإقطاعيات لأنك اخترت "الباقية" ولم تغتر بمظاهر"الفانية" وزخرفها, وحينما نزل "رماة العلماء" من الجبل ليسلموا رقابنا للضلال والتدجين والتدجيل, وليجمعوا غنائم معركة لم تنته بعد, بقيت وحدك فوق الجبل, شامخا رائعا قويا مؤمنا بالله مخلصا لدينك وأمتك..
يا لسعادتك أيها الإمام الرائع, وقدا قترن اسمك بالمساجد والمحاظر ولم يرتبط بمنزل أو عقار أو إقطاعية ولقد كنت مع الفقر وشظف العيش سخيا ندي الكف, جوادا كما كان أجدادك وآباؤك العظماء..
إمامنا.. نم هادء, فنحن يتامى من بعدك.. لا أحد سيمسح على رؤوسنا.. لا إمام سيصرخ فينا بقوة الحق.. لا عالم سيسد الفراغ الذي تركته في حياتنا..
نم هانئا وادعا في روضة من رياض الجنة, ولتزر قبرك الطاهر شآبيب الرحمة والرضوان.. وليجد فيك كل الموريتانيين العزاء المستحق.. وليشمل العزاء أيضا القرءان, والحديث, والسنة, والأخلاق, والصدق, والتصدق, والتطهر, والعفاف, والتواضع, فتلك قيم تبكي مثلنا إماما غيب الموت جسده وإن له لذكرا طيبا حسنا سائرا أزليا لا ينقطع..
وداعا بداه.. وداعا فنحن نشرق بالدموع, فهذا يوم فقدنا فيه رجلا كان من أعظم الرجال, وأطهر الرجال, وأشجع الرجال, رجلا كان كل الرجال..
وداعا, وإن لنا بغيابك لرزء لن نستطيع تحمله, ولكن ما باليد حيلة فهذا قضاء الله وسنته في خلقه..وداع نتمتم عبر دموعه:
إلى جنة الخلد أيها الإمام العادل..فقد ملأت حياتنا عدلا ,وكانت بك أيامنا بيضا مفعمة بالنعيم والسؤدد والالق.