وضعية السوق العالمي لخامات الحديد ومستقبل "سنيم" (2) / د.يربان الحسين الخراشي

في مقال الأسبوع الماضي تطرقنا لتطور أسعار خامات الحديد خلال ال 100 سنة الماضية خاصة خلال العشرية الأخيرة التي تميزت بحدثين متتاليين متناقضين، حيث شهدت أكبر طفرة  في ازدهار أسعار خامات الحديد عالميا مع أكبر أزمة انهيار لها في التاريخ مبرزين الأسباب التي وقفت وراء كل من ذلك الازدهار والانهيار، وتداعيات هذا الأخير على إيرادات الدول المصدرة، وخاصة بلادنا التي تقلصت عائداتها المالية من الحديد الخام بأكثر من 70 %.  وخلصنا إلى أن شركة "سنيم" رغم الأزمة، ورغم عوامل أخرى مختلفة يعتقد البعض أنها أصبحت تنخر في كيانها، إلا أنها لم تغرق أثناء الأزمة، ولن تغرق، وقد حافظت على ترتيبها على الصعيد العربي، والإفريقي، والعالمي بل حققت نجاحا ملموسا أثناء الأزمة بحفاظها على رأس مالها البشري الذي  هو رأس مال لا ينضب.  لكن ماذا بعد الأزمة ؟

 

(1)

 

شركة "سنيم" ما بعد الأزمة

 

لاشك أن أزمة انهيار أسعار خامات الحديد أثرت بشكل سلبي مباشر وغير مباشر على جميع شركات التعدين العالمية العاملة في مجال استخراج المادة الخام، والتي من بينها الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (SNIM)، وقد كانت ردة فعل جل الشركات العالمية اتجاه هذه الأزمة باتباع خطط واستراتيجيات سريعة تستهدف خفض تكلفة الإنتاج الإجمالية على مستوى الموقع إلى ما دون عتبة 20 دولارا للطن، وهذا للأسف ما لم تنجح شركة "سنيم" في تحقيقه، بل إن تكلفة الإنتاج للشركة شهدت ارتفاعا أثناء وبعد الأزمة؛ وهذا ما يدعونا اليوم إلى تسليط الضوء على حجم إنتاجها، وحجم مبيعاتها، وثقة الممولين فيها، وسياستها الإعلامية في مرحلة ما بعد الأزمة، وذلك للوقوف بشكل أدق وأعمق على حالتها الراهنة، وتقييمها تقييما منصفا يشمل النجاحات والإخفاقات على حدٍّ سواء.

 

 أولا-: العمال و الإنتاج

 

خرجت شركة "سنيم" من الأزمة سنة 2017 بخسارة حوالي 12% من قدرتها الإنتاجية السنوية، حيث أظهرت التقارير أن إنتاجها انخفض من حوالي 13.1 مليون طن سنويا قبل الأزمة إلى حوالي 11.7 مليون طن بعد الأزمة، ويعزى ذلك أساسا إلى

ضعف صيانة المعدات، وشبه غياب تحفيز العمال للعمل بكفاءة وفعالية، وكذلك بسبب بعض المشاكل المنجمية تعود ربما للخرائط التصميمية الهندسية للمكامن وتواجد المادة الخام، مما يعيق التغلب على بعض العراقيل التي تظهر خلال عمليات تطوير و تحسين الاستخراج،  ومع ذلك تبقى مقارنة حجم الإنتاج في عهد شركة اسنيم مع حقبة استنزاف المستعمر لثروتنا عن طريق "ميفرما" مقارنة غير موفقة نظرا لإختلاف ظروف الاستغلال والاستخراج في العهدين .

"ميفرما" التي كانت رمزا للإمبريالية والاستعمار في أبغض تجلياته، ركزت أعمالها على استغلال اللب المنجم السطحى، الذي تصل نسبة تركيز عنصر الحديد فيه  إلى حوالي 70%، وهو ما كان يختزل حلقة الإنتاج على النقل الداخلي، والطحن ثم الشحن مباشرة دون المرور بمرحلة الإغناء، كما أن إنتاجية العامل ليست عملية قسمة بسيطة لمجموع الإنتاج السنوي على عدد العمال، وعليه فإن  إنتاجية عامل ميفرما الأجنبي الذي يفصله جدار عازل عن نظيره الموريتاني، ويتمتع بعلاوة على راتبه  عرفت بعلاوة سوء الجار (Indemnité de mauvais voisinage) نظير سكنه قرب منازل المواطنين الملاك الحقيقيين لثروة الحديد لا تقارن أبدا بإنتاجية العامل الوطني الشريف الذي يعمل ليل نهار في ظروف بيئية ومناخية ومالية سيئة، و ربما  يكون هذا جزء من  "إرث ثقافة شركة ميفرما" الذي تأسف البعض على عدم مبالات شركة سنيم به ، ويبقى خيار شركة سنيم ما بعد التأميم  مواصلة اعتمادها على اليد العاملة البشرية المكثفة، وخلق فرص عمل أكثر للشباب في بلد قد تصل نسبة البطالة فيه إلى  حوالي 30 % خيارا مبررا وصائبا.

 

 

 

ثانيا-: التسويق والمبيعات

 

أما على مستوى التسويق فقد خرجت شركة "سنيم" من الأزمة بخسارة حوالي 20% من حصتها في السوق الصينية الأكبر عالميا، و حوالي 17 % من حصتها في السوق الألمانية الأكبر أوروبيا، لكنها حققت نجاحا معتبرا بدخولها السوق الياباني الثاني عالميا، حيث قفزت صادراتها إلى اليابان إلى حوالي 300 ألف طن سنة 2017، وهو ما شكل زيادة بنسبة 231.1٪ في عائدات بلادنا من صادراتها لخام الحديد إلى اليابان، وذلك في الوقت الذي تناقصت فيه عائدات دول أخرى وازنة، مثل: جنوب أفريقيا التي تناقصت عائداتها بحوالي 70% ،وروسيا  التي تناقصت عائداتها  بحوالي  83% ،وحتى أستراليا انخفضت عائداتها من صادراتها لخام الحديد إلى اليابان بحوالي النصف.

 

إن دخول شركة "سنيم" للسوق الياباني الثاني عالميا بعد الصين، والتي يصل اعتمادها على الخامات المستوردة إلى نسبة 100 % يعد إنجازا كبيرا للشركة بعد الأزمة، وخطوة  في الطريق الصحيح تعزز الانفتاح على السوق الآسيوي الواعد. وهنا نستغرب  ما قيل عن تحفظ عدد من مسؤولي سنيم على سياستها التسويقية اتجاه ما سمي با " أسواقا أبعد".

صحيح أن الأسواق الأوروبية قريبة من شواطئنا  لكننا لسنا أقرب من السويد، ولا رومانيا أو أوكرانيا، فكل هذه الدول تسعى جاهدة لزيادة حصتها من صادرات خاماتها في السوق الآسيوية، كما أن أوروبا لم تعد أوروبا الصناعية في القرن العشرين،  ففرنسا أيام النهب الممنهج لخاماتنا عالية التركيز كان حجم إنتاجها من الصلب الخام يصل إلى حوالي 25.27 مليون طن سنة 1973، و انخفض هذا الإنتاج إلى 12.8 مليون طن سنة 2009،  وهذا ما يعني أن حجم استهلاك فرنسا من المادة الخام انخفض بحوالي 50 %، و نفس الشيئ ينطبق على ألمانيا التي كان حجم إنتاجها من الصلب الخام يصل إلى حوالي 50 مليون طن سنة 1973، وانخفض هذا الإنتاج إلى حوالي 32 مليون طن سنة 2009، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بلغ حجم واردات جميع دول الاتحاد الأوروبي مشتركة (28 دولة) من خامات الحديد سنة 2016 حوالي 147 مليون طن، بينما بلغ حجم واردات الصين لنفس السنة حوالي 1.024 مليار طن، واليابان أكثر من 130 مليون طن.  وعليه فإن التحفظ المشار إليه أعلاه على السياسة التسويقية  لشركة سنيم التي تستهدف الأسواق الآسيوية يعتبر تحفظا غير مبرر، و ينم عن جهل أصحابه  بجوهر ما يحدث في السوق العالمي لخامات الحديد ، ومع ذلك نؤكد أنه من مصلحة الشركة الحفاظ على حصتها في السوق الأوروبي بل وحتى السعي إلى زيادتها إن أمكن ذلك .

 

 

ثالثا-: السياسة الإعلامية

 

في الوقت الذي أصبح فيه الإنفتاح والولوج إلى المعلومة حق من حقوق المواطن، وشرط مسبق للشفافية، وعلى الرغم كون بلادنا تتبنى مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية منذ 2005م، واطلقت مؤخرا مشروع " البيانات المفتوحة " الذي يستهدف رفع السرية عن التقارير والمنشورات الحكومية حول الصناعات الاستخراجية، إلا أن المحتوى  الرقمي  لشركة " سنيم" على الإنترنت  ضعيف جدا، و المعلومات حولها  شحيحة خاصة المحتوى العربي الذي إن توفر يكون ترجمة ركيكة من لغة أجنبية، ومن الصعب فهمه، مما يسيء إلى مكانة بلاد المنارة والرباط كإحدى ثغور الثقافة الإسلامية والعربية.

 و في الآونة الأخيرة أصبح تضارب  تصريحات المديرين، وتناقض منشورات، وبيانات الشركة السمة الرئيسية المميزة لسياستها الإعلامية، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: البيان الصحفي الأخير، الذي يتحدث عن تمويل بمبلغ 109 مليون دولار لصالح الميناء المعدني الجديد، الذي سبق وأن تم تدشينه يوليو 2013، حينها قال مدير سنيم في مكبر الصوت أمام رئيس الجمهورية، وأمام الشعب الموريتاني "أن الميناء المعدني الجديد قادر على استقبال سفن تصل حمولتها إلى 250 ألف طن، وأن بناءه كلف 210 مليون دولار"،  و لا يزال هذا الخبر منشورا على موقع الشركة تحت عنوان رئيس الجمهورية يدشن الميناء المعدني الجديد، هذا بالإضافة إلى التصريحات المنسوبة للإداري المدير العام لسنيم  خلال مقابلة له مع مجلة الأعمال New African قال فيها أن الشركة تتطلع للوصول إلى إنتاج 25 مليون طن بحلول عام 2025، بينما الشركة لا تزال تنشرعلى موقعها أن رؤيتها   هي : " السعي إلى الانضمام إلى الخمس الأوائل لمصدري خامات الحديد في أفق 2025 عن طريق إنتاج 40 مليون طن سنويا" .

ومع ذلك يعد الحصول على  تمويل إضافي من البنك الأوروبي للاستثمار، والبنك الإفريقي للتنمية لمشروع تجريف الميناء، الذي يهدف إلى تقليص تكاليف الشحن البحري التي تعتبر عاملا مؤثرا في تسويق خامات بلادنا آسيويا، وهو ما بات يعرف  ب"رحلة استدانة جديدة"  دليلا على إعادة ثقة الممولين في الشركة والاقتصاد الموريتاني في مرحلة ما بعد الأزمة.

 

(2)

الأسعار ما بعد الأزمة

 

يعتقد جل المحللين لدى المؤسسات المالية العالمية أن الطلب على المادة الخام في السوق الصيني  سيبلغ ذروته هذا العام، وذلك نتيجة لبلوغ  إنتاجها من الصلب الخام  أقصى مداه (حوالي 850 مليون طن)، وهذا يعني أن طلبها على خامات الحديد سيكون مستقر نسبيا مستقبلا، وبالتالي فإن حالة عدم الإستقرار التي ميزت سوقها في السنوات الماضية، حيث ارتفعت الأسعار إلى ما فوق 180 دولارا للطن وإنخفضت إلى ما دون 40 دولارا للطن لن تكرر في المستقبل القريب وقد بدأت الأسعار في السوق العالمي تستجيب لهذه الوضعية الجديدة في السوق الذي يعتبر أكبر محرك للطلب على المادة الخام.  

فالأسعار التي كانت بداية 2014 تصل إلى 134 دولارا للطن حسب مؤشر بلاتس للخامات تركيز62%، والتي سرعان ما تهاوت لتفقد حوالي 40% من قيمتها مع نهاية أغسطس لتصل نهاية نفس العام إلى 71 دولار للطن، وتواصل مسارها التنازلي خلال سنتي 2015 و2016، حيث بلغ المعدل السنوي حينها للأسعار 55.5 و58.5 دولارا للطن على التوالي تميزت  خلال السنة المنصرمة 2017 بالاستقرارالعام مع تحسن نسبي بمعدل سنوي بلغ 71.32 دولارا للطن، هذا الاستقرار تعزز، و بدى واضحا أكثر خلال السنة الجارية التي لم تشهد تذبذبا كبيرا.  فالأسعار منذعدة أشهر تتأرجح حول 75 دولارا للطن. و قد يكون من المفارقات أن هذا المستوى السعري هو خط التماس في حرب السيطرة على تسعير المادة الخام القائمة بين الأربعة الكبار والصين منذ سنوات، فمن جهة يقترب من الحد المساوي لتكلفة الاستخراج لجل المناجم الصينية الداخلية و الخارجية في إفريقيا وهذا ما يخرجها من المنافسة، ومن جهة أخرى هو أكبر بحوالي الضعف من التكاليف لدى الأربعة الكبار، مما يجعل منه مستوى سعري مقبول لكل من صناع الصلب الصينيين، والأربعة الكبار المصدرين( فالي، ريو تينتو، بي.اتش.بي و فورتيسكميتالز)  ويرجح الكثير من المحللين أن تبقى الأسعار تدور ما بين 60 و75 دولارا للطن لعدة سنوات قادمة ومع ذلك هناك توقعات متشائمة لمؤسسة فيتش سوليوشنز (Fitch Solutions )  تتوقع أن يبلغ متوسط سعر الطن 48 دولارا في العام المقبل 2019 .

 

 

(3)

 

الطلب العالمي ما بعد الأزمة

 

 

الوضعية الحالية للسوق العالمي لخامات الحديد و إن غلب عليها استقرارا عاما في الأسعار إلا أن الطلب العالمي خاصة الصيني يشهد تحولا نحو الخامات عالية التركيز و الجودة، وما إتساع الفجوة  في فارق السعر بين الخامات عالية التركيز، والمنخفضة التركيز من جهة، و بين عالية نسبة تركيز الشوائب وقليلة الشوائب من جهة أخرى إلا خير دليل على ذلك، حيث يبلغ حاليا سعر طن خام الحديد تركيز 65% حوالي 87 دولارا للطن، وسعر طن خام الحديد  تركيز 62% حوالي 69 دولارا ، بينما ينخفض السعر إلى 42 دولارا للطن بالنسبة للخامات تركيز 58% عالية شوائب من أكسيد الألومنيوم، ويرتفع إلى حوالي 60 دولارا للطن بالنسبة للخامات قليلة تركيز شوائب أكسيد الألومنيوم، وقد بدأ السوق العالمي يستجيب لهذا التحول، و نكتفي بذكر ثلاثة دلالات على ذلك :
أولا : توجه شركات التعدين العالمية إلى الاستثمار في تطوير مناجم إنتاج الخامات عالية التركيز، على سبيل المثال لا الحصر : مجموعة فورتيسك ميتالز (FMG) أكبر مصدري الخامات الفقيرة إلى الصين استثمرت حوالي 1.27 مليار دولار في تطوير

 منجم في غرب أستراليا لإنتاج الخامات عالية التركيز، وستبدأ بالفعل  تصدير الخامات عالية التركيز إلى الصين الشهر المقبل ،ومن المتوقع أن يبلغ انتاجها من الخامات عالية التركيز 40 مليون طن سنة 2020.  وتخطط شركة ريو تينتو (RioTinto) استثمار 2.2 مليار دولارعلى مدى السنوات الثلاث المقبلة لتطوير منجم  Koodaideri  لزيادة إنتاجها من الخامات عالية التركيز، كما تتفاوض شركة فالي حاليا مع الحكومة البرازيلية لسماح لها بتوسيع منجم S11D في غابات الأمازون المطيرة كي تبلغ طاقته الإنتاجية السنوية 90 مليون طن بحلول عام 2020.

 

ثانيا : ارتفاع الغرامة على شوائب الألومنيوم، حيث نشرت س أند بي جلوبال بلاتس (S&P Global Platts) مؤخرا تقريرا ذكرت فيه أن الغرامة على شوائب الألومنيوم ارتفعت من 1.5 دولارا للطن مطلع العالم الجاري إلى 7 دولارا للطن بالنسبة لكل زيادة بنسبة 1% من أكسيد الألومنيوم في خامات الحديد.

 

ثالثا  احداث نمط جديد من العقود الآجلة لخام الحديد العالي التركيز، حيث أعلنت  بورصة سنغافورة مؤخرا بأنها ستطلق عقدًا جديدًا لمشتقات خام الحديد عالي الجودة في ديسمبر المقبل، وذلك من أجل تلبية طلب السوق العالمي على خامات الحديد عالية الجودة، وقد ذكرت البورصة أن منتج خام الحديد الذي تركيز عنصر الحديد فيه 65 %هو المنتج المرجعي للأسعار لتداول هذا النوع الجديد من العقود الآجلة لخام الحديد.

 

يتميز السوق العالمي لخامات الحديد ما بعد الأزمة باستقرار عام في الأسعار يعتقد بعض المحللين الدوليين أنه قد يستمر حتى 2023 مع تحول في الطلب العالمي نحو الخامات عالية التركيز والجودة خاصة الطلب الصيني، أما شركة "سنيم" فهي في طريقها لاستعادة عافيتها وحالتها العامة تماثل حالة جل شركات التعدين  بعد سنوات من الأزمة. ولكن "سنيم" إن لم تتطور وما يتماشى وهذه الوضعية الجديدة للسوق الدولية لخامات الحديد فإن قوتها التنافسية ستكون على المحك.

26. نوفمبر 2018 - 18:05

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا