(1)..مباني عملاقة و جميلة ، و أجنحة كثيرة ، و مساحات شاسعة ، و ممرات و سلالم و درج ، و عالم نشط من أمواج البشر.
أطباء شباب بملابس أنيقة في حركة دائبة كخلايا النحل ، أخصائيون و ممرضون و عمال دعم و حراس .
مكان نظيف و غرف أنيقة و أجهزة جديدة ، لكن وراء كل هذه المظاهر ، عالم آخر يعكس واقع البلد .
تستقبلك الممرضات بنشاط و إنسانية كبيرة ، لكن المساعدات ينتصبن أمامك مغلقات الطريق إلى الداخل ، لأنها (أوامر) ، لكن تلك العنجهية و العبارات الخشبية سرعان ما تتبخر ، و تتحول إلى وداعة و استعداد للخدمة ، بمجرد الإشارة للاستعداد للبذل.
في جناح النساء يوفرون لك البضاعة بدفعك لشرائها قسرا ، و بسعر مضاعف عدة مرات ، و كأنهم فهموا أن لي علاقة بالمدارس الحرة حيث تسعى الضرائب لإغلاقها بإثقال الكاهل . و لأن شراءها هو ضمان لحسن المعاملة فأنت مجبر ، شأن أطرنا الذين لا يختارون المواقف ، و إنما يدفعون لها دفعا ، فالمصالح أولى.
رغم توفر السيد "أكنام" الذي لم أكتشف أهميته إلا هذه الأيام ، تجد عالم الصيادلة فاغرا فاه على الطريق المؤدي للمستشفى ، و هو ينتظر ما تعجز عنه الصيدليات الداخلية ، و كأنه يريد أن يقتص من التخفيض بصاروخية الأسعار.
ليلة صعبة من الانتظار ، و غرفة العمليات هي الهدف لتنفرج عن حالة أخرى أشد حاجة للعلاج و المتابعة ...
(2).. في مركز الاستطباب في كيفة هناك تسيير محكم ، لكن الإجراءات طويلة و صعبة جدا ، فهناك شخصان فقط يملكان حق تأشير الأوراق ، هما المسير و نائبه ، و عليك أن تسبح في فضاء ثلاثي الأبعاد حتى تتمكن من الحصول على حقك في التأمين ، و ذلك من أجل كل وصفة . و مع ذلك لن تجد في الصيدلية إلا ثلثي الدواء، أو نصفه أو ثلثه ، و طائفة من الناس يحدثون بتفاصيل حياتهم دون سؤال أو رغبة منك ، فالكثير من التجارب هناك متاحة للجميع، فالعفوية تطبع الغالبية العظمي من المتحركين في هذا الفضاء.
في المركز هناك ثلاث شركات مناولة للعمال (تاشروني) ، توفر عمال الحراسة و النظافة و عمال الدعم . سألت إحدى عاملات النظافة عن راتبها فقالت 35 ألف أوقية ، أترك منها خمسة ألاف لرئيسي المباشر ، فعرفت أن عمال المناولة يتعرضون للاستغلال البشع ، فلا يمكن أن يكون الاتفاق مع الشركة أقل من الضعف ، على عمل جله سباحة في الأوساخ و السهر . و لعل هذا الأمر هو ما جعل هؤلاء المساكين يضغطون من أجل الرشوة و الاستفادة من الزوار.
تصادف أن الطبيب الخاص للسيدة هو الطبيب المناوب ، و هو قليل الكلام ، قليل الانفعال ، باهظ الوصفات ، يخافه فريقه ، لكنه واضح الرؤية و متدين جدا . و قد قال لنا أحدهم : من حسن حظكم أو وجدتم هذا الشاب العارف ، فهناك جراح آخر جزار ، كثيرا ما يستأصل أرحام النساء بدون سابق إنذار . لا أعلم صدقية القول ، لكنني ارتعدت فزاعا من الوصف.
انتهت العملية في حدود الرابعة ، و أخرجت الطبيبات صغيرة مخضرة اللون ، لا تستطيع التنفس ، و شرعن في ضربها بدون رحمة على الظهر ، فقلت أطقوس هذه أم علاجات؟ ، دد لكنهن اضطررت لنقلها بسرعة لجناح الأطفال ، فوضعت تحت جهاز بدرجة حرارة مناسبة ، و أسعفت بالأوكسجين.
بدأت تتنفس بصعوبة شديدة ، و بدأت الخضرة تنحصر في الأطراف ، و بدا لي أن الأمر غير كاف لإسعافها ، فأحدثت ضجة في الفريق ، فاتصلوا بالأخصائي الذي حضر على جناح السرعة ، ليجعلها في حافظة ....
(3)...يعاني فريق قسم الأطفال من مشكل حقيقي ، ففي الحجز هناك أمراض متنوعة ، و بعضها خطير جدا ، فهناك السعال الديكي و التهاب السحايا(بو ارويص) و بعض الأورام المخيفة ، و قد كان هاجسي هو الحجز مع إحدى هذه الحالات .
لست أعلم إن كان الدكتور الأخصائي الذي زارنا هو الوحيد في القسم ، لكنني أجزم أنه كان مواظبا على زيارات المرضى ثلاث مرات على الأقل في اليوم ، خلال فترة تواجدنا ، و كان يأتي للحالات المستعجلة ، و هو يتمتع بأخلاق عالية و هدوء مريح ، لكنه كان ، و له الحق في ذلك ،صريحا معي حين قال لي : لقد أتعبتنا خلال تواجدك في هذا القسم، هذا التصريح دفع بعض صغار الممرضين أن يستأسد علينا و يستجلف في خطابه نحونا ، لكنني رتبت أعصابي في الثلاجة و طبقت عجز البيت : فكن كأنك لم تسمع و لم يقل ..
لقد عرفت من خلال هذا الدكتور ، أن طبيب الأطفال يحتاج لفطنة زائدة و حس قوي ، فهو يتعامل مع كائن لا يعبر ، و يصعب تحديد مكان معاناته.
تحسنت وضعية الطفلة ، لكن صورة المركز أخذت منحى آخر، فقد لاحظت عدة أمور جعلتني أشعر بالأسى على هذا البلد.
- لاحظت أن الفقراء و الضعفاء لا نصير لهم هنا ، و أن انهيار للقيم الذي عانينا منه في مقطع الأحجار ، يوجد ما يضاهيه في المعاملة السيئة من طرف العمال الصغار للوافدين من البوادي . رغم أن الأطباء الكبار يوحون بقدر كبير من المهنية ، و تكون المهنية ممزوجة بالتفاني و الانسانية عند السوريين .
- لا حظت أن فصل الصحة عن الشؤون الاجتماعية درس من التربية المدنية لم يفهمه معاودو المركز ، فلا زالوا يطالبون بالضمان الاجتماعي و مساعدة الضعفاء ، و الدعم ، و نظرا لغياب المصالح شبه التام عن الولاية ، أو عدم فهم المواطنين لدورها ، فقد ظلت القبيلة هي التأمين الصحي الوحيد للحالات الإنسانية الحرجة ، هذا بالنسبة لأبناء القبائل. و هذه القضية من الأسباب التي جعلتنا نتمسك بهذا (المسار).
(4)... رغم متابعتي الدقيقة ، و سهري الدائم و حركيتي مع طواقم الحجز المتتالية ، فقد سجلت ثلاث أخطاء فادحة ، تعطي نمذجا عن التلقائية التي يتعامل بها الممرضون مع المرضى ، أو غياب العقلية الحضرية و روح التفاني في العمل ، و روح الإبداع و التنافس على التميز .
فقد لاحظت أن الفرق التي تأتي في أغلبها تفتقر للشغف بالعمل و الانسانية الطافحة التي عهدناها في الأطباء و نحن صغارا . إنهم يشعروك أنهم مساجين مهمة ثقيلة . و لعل قضية الرواتب و التشجيعات و عدم الإحساس بحب المهنة الذي يعاني منه موظفو كل القطاعات هو السب . و لو أنهم رأوا مرحلة التفاني عندنا في بعض الساسة لقرأوا تجربة بديعة في الحماس و التضحية مقابل بعث الأمل و ترطيب الجيوب.
الخطأ الأول : أنه بعد إخراج الطفلة من الحافظة نقلونا نحو غرفة بها صبي مصاب بالسعال الديكي ، فدخلت معركة من أجل تحويلنا . و قد استأجرت غرفة فردية ، لكنها لا تحتوي أوكسجين، فحولنا غرفة استراحة نقلنا نحوها الأم بعد خروجها في اليوم الثاني . و في المكان الجديد أتوا بمصاب آخر ف(حاكيت الدببة) عليه .
الخطأ الثاني: أن أحد الممرضين نسي في ذراع الصبية غلاف اليد المطاطي الذي كان يقوم بواسطته بحجز الدماء في الأوردة أن يظهرها ، و عندما فشل نسيه في مكانه ، و ألبسها ثيابها و لم يفطن لذلك غير الأخصائي بعد خمس ساعات ، ليجد ان الذراع كله أصبح ابيض ناصعا متورما ، و الحمد لله أنه تدارك الأمر قبل أن يستفحل، و لا زلت أراقب الذراع و أفكر في رفع قضية قضائية ضد المستشفى . و هذه الحالة تنبئ عن مستوى الإهمال و عدم القدرة على ترتيب الأولويات و ضعف مستوى الاحتياط ، و عقلية البدوي الذي تستغرقه اللحظة و لا يمكنه أن يهتم لشيئين غي نفس الوقت ، و هي خصائص لما تتغير لدى الموريتانيين.
الخطأ الثالث : أن الممرضين عجزوا مرات عن الحصول على وريد للحقنة لدى الصبية ، و لكنهم بدل أن يستسلموا و يطلبوا مخدرا للأمر ظلوا ببحثون في الرأس و الأطراف ، و بعد أن عاثوا في جسمها ، بدأوا يبحثون عن مخدر. و يعكس هذا الأمر مستوى الإرتجالية عندنا ، فبدل أن يعترف أحدنا بخطئه و يسعى لذوي الاختصاص ، يصر على إنجازه و إفساده و ربما جلب نتائج كارثية ، و قد تجلى ذلك في مظاهر عديدة تجتاح جسم الدولة ، فهؤلاء مدرسون في وزارة المالية ، و أولئك مهندسون في وزارة التعليم و أدباء في وزارة البيطرة و رياضيون في وزارة البيئة ، و غير ذلك .
لاحظت أن في الحجز صبي من ضفة النهر يعاني ورما في الرأس ، لكن المشكل أن مستوى الأهل المادي لا يسمح بمعالجته ، و حالته تسوء في انتظار مسعفين.
(5) .... يقع المركز في مكان معزول ، و يجلب الماء من المدينة نقلا في الصهاريج ، و تبعد عنه الصيدليات مسافة بعيدة ، مما جعل معاوديه يمارسون رياضات المشي قسرا ، فعمليات الصعود و الهبوط ، و الانتقال من صندوق المدخل و "أكنام" و الصيدلية الداخلية، و التأشير عند المسير أو مساعده ، و شراء بقية الدواء من الخارج ، و إعادة الوصفة للصيدلية الداخلية لأنها ستحتفظ بها.
لقد ارهقتني تلك الحركات البهلاوانية ، و رغم توفر (اليابانية) فقد تورمت قدماي و آلمتني مفاصلي ، لكنني أصررت على المقاومة حتى الانتهاء من المهمة .
حاجة ماسة في المركز لتسهيل الاجراءات و بناء صيدليات عند المدخل ، و وصله بشبكة المياه ، بعد جلب مياه اخرى غير الموجودة.
في كيفة معاناة شديد فيما يخص المياه، فمركز تصفية الكلى نشط و يحتل موقع المستشفى القديم (طب الصين) ، و ذلك نتيجة ارتفاع نسبة الكلس في الماء ، و تلوث مياه الآبار بالصرف الصحي. و لست افهم كيف لولاية ضخمة ديموغرافيا ، و قد قادت البلد عدة مرات ، و بها ثقل إجتماعي كبير، و أعداد هائلة من الأطر و المثقفين و الكتاب ، كيف تعجز أن تحصل على ماء صالح للشرب .
ودعت المركز بعد أربعة أيام حسوما ، ذقت فيها طعم السهر ، و تدربت فيها على الصبر و الإصرار على الهدف . و عرفت خلالها أن الطاقة الاستيعابية و الكوادر و المباني و التجهيزات لا تنقص، لكن المعاناة هي من العقلية السائدة في المجتمع الموريتاني ، و ضعف مستوى الدخل لدى الأطباء . فلو أن هذا العدد من الأفراد المكونين العارفين بالمهنة ، جعلوا في ظروف مقبولة ، لكان المركز مضرب مثل .