إنّ الساحة الفكرية الإسلامية المعاصرة، تشهدُ مدا وجزرا في بعض القضايا المشتركة بين منتسبي الحركات الإسلامية، ممّا أدى إلى تقاطع فكري بين القوم، والسبب الرئيسي هو فهم البعض لمفاهيم الشرع على غير المُراد منها .
والذي ينبغي للمُسلم أن لا يكون إمّعة يتبع كلّ ناعق ، بل ينبغي أن تكون شخصيته بمُقتضى الشرع ، حتى يكون متبوعا لا تابعا وأسوة لا متأسيا ، مُحكّما للشرع في جميع نواحي الحياة .
إذْ أنّ البعض منّا وللأسف مُوالاته للدين عن عاطفة لا قناعة ، وكذالك عن جهل لا عن علم ، يؤمن بالشعارات البراقة أكثر من نصوص الوحي الخفاقة ، يستميتُ في الدفاع عن بعض القضايا الفكرية عن هوى ، غيرَ مُدرك لدلالات الشريعة فضلا عن ألفاظها ، ديدنه الحماسة ، ومقصد سياسته الرآسة ، مُخالفه لا يسعه الدليل .
ليعلم هؤلاء أنّ الشريعة الإسلامية قد وسعت تشدُد ابن عمر ، ورُخص ابن عباس ، ورأي أبي حنيفة ، وظاهرية ابن حزم ، ومقاصِدية الشاطبي ، فلمَ لا تسعنا ؟
شريعتنا لا وكس فيها ولا شطط ، حسنتها بين سيئتي الإفراط والتفريط ، لا أحد من أهلها يسعه الخروج عن منهجها الرباني ، لا مُرجأ فيها يقول "لا يضر مع الإيمان ذنب "، ولا خارجي يقول "مُرتكب الكبيرة مخلد في النار" ، ولا معتزلي يقول هو" في منزلة بين المنزلتين" ، بل الإيمان عندنا يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
يُحاول البعض أن يجعل من بعض العلماء ملائكة لا يخطئون ، آرائهم بمنزلة نصوص الوحي ، آخرها ينسخ أولها ، و خاصّها يقيدُ عامها وهلُم جرا .
سبب هذا الانجراف الفكري هو الحب الزائد المقدم على حب الله ورسوله ، وعدم التفريق بين المحبة الأصلية والمحبة التابعة ، فمحبة الله عز وجلّ هي المحب الأصلية وما سواها تابع لها وخادم لها كما هو معروف عند علماء مقاصد الشريعة .
نحن قد لا نوافق في أن كل مجتهد مصيب ، ثم لو وافقنا فالمجتهد أُعذر بعلمه ، أما الجاهل فآثمٌ لتقديمه لهواه على مراد الله .
وسائل الاجتهاد نعلم أنها غير مُتاحةٍ للجميع ، ونعلم كذالك أنّ المجتهد مهما بلغ من العلم لن يصل إلى مرتبة الأنبياء حتى نعطيه حصانة .
ومن هذه المفاهيم أنّ بعض العِلمانيين يُحمّل الإسلام ما لا يتحمّل ، فأخطاء المسلمين لا تمتُ للإسلام بصلة ، " كلٌ ذنبه على جنبه " هذه الشريعة رائدها [محمّد صلى الله عليه وسلم ] ترك أمته على المحجة البيضاء ، وهو الشخصية الوحيدة " الغيرُ" قابلة للخطأ ، أمّا غيره فيأخذ منه ويرد .
وهذا المفهوم يجب أن يعلمه كذالك منتسبي الحركات الإسلامية ، وللأسف نظرة الغرب إلى المسلمين تنبع عن جهل بهذا المعيار ، حيث أصبحوا يسمون الإسلام بالتطرف والدمار والدم ....الخ
هذه الأفعال صدرت مِن مَن لا ناقة له في الإسلام ولا جمل ، شباب أصبحوا عارا على دينهم وأمتهم ، ضرهم أقرب من نفعهم ، وللأسف لم يسلم منهم مكان ، بدؤا بالقريب قبل البعيد ، تكفيرٌ وتفجيرٌ .
في عالمنا الإسلامي جماعات متعددة ، كلٌ منهم يغني على ليلاه ، ويدعي أنّ منهجه وجماعته هي الفرقة الناجية ، وغيرها كأنما ينفخ في رمــــــــــــــاد .
إنّ منهج الإعجاب بالرأي والطائفة هو الذي عاب الله عليه بني إسرائيل حين تحمّسوا وقالوا بأن الجنة لن يدخلها غيرهم ، ومن رأى في نفسه هذه الصفة فليراجع نفسه وفكره .
فمفهوم اختزال الإسلام في جهة معينة هو بمثابة حجرٍ يسدُ على الناس طريق نور الهداية في ليل بهيم ، أو كمن يحاول حجب نور شمس الضحى بكفه .
محمّد عليه السلام حين جاء إلى قريش لم يكن مقصده وهدفه مُجرد الحصول على وظيفة في نادي سوق عكاظ ، ولا زعامة قريش ، ولا قومية عربية يُضاهي بها فارس والروم ، بل كان هدفه أسمى من ذالك وهو إسعاد البشرية وإخراج الناس من براثين الجهل والظلم ، إلى نور الحرية وعدالة السماء .
إنّ تعاليم الإسلام لست مُجرد لوحات فنية تُعلّق على الجُدران ، ولا لافتات تعلق على الشوارع ، ولا هو موضة عابرة تتباهى بها النساء في سوق العنوسة ، ولا هو مصدر رزق للمتنسكين ، الذين يأكلون بالتدين والدين .
بل هو قضية كونية عالمية ، بسببها رُمي إبراهيم في النار ، وذبح يحي بالمنشار ، وكُذب موسى وعيسى ، وطرد وشّرد محمّد عليه وعليهم السلام .
يحاول البعض التنازل عن مبادئه وقيمه لإرضاء الغرب وكي لا يوصف بالتطرف والتشدد والتزمت .....صحيح أنّ المراحل الزمنية لها أحوالها الخاصة بها وأحكامها فما يصلح في زمان قد لا صلح زمان آخر .
لكن التنازل والتمييع إلى قدر الذوبان وعدم التمييز بينه وبين غيره يصيب الناظر بالغثيان ، أعتقد أن مفهوم الذوبان جائر ، فمحمّد عليه السلام وهو في بداية قيام الدولة الإسلامية حين خاطب ملك الروم قال له ( من محمّد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ) فهو عظيم عند الروم ، ومهما بلغ ـ عليه السلام ـ من ضعف مادي بقي عزيزا بقوته المعنوية التي تتصل بعنان السماء .
وسبب هذا التمييع هو الفراغ الداخلي والتركيز على المظاهر الخارجية مُواكبة للحضارة الغربية وتقليدا أعمى للآخرين .
وعلى مُفكري موريتانيا الإسلاميين أن يعلموا أنّ موريتانيا من شرق شرقها إلى غرب غربها ومن قمّتها إلى قاعدتها ـ حسب علمي ـ لا أحد منهم يقف في وجه الإسلام " بالمفهوم الحقيقي " ، وما وقع من انحسار في وجه الإسلاميين من قبل البعض ، سببه هو النظرة السائدة بأنّ هؤلاء أصحاب حزب سياسي لا غير ، وأنهم امتداد للحركات الإسلامية في الخارج ويريدون تطبيق أجندة خارجية ، وبهذه الفُقاعات استطاع الخصوم تشويه صورة الإسلام السياسي .
قد يكون في هذا شيء من المبالغة ، لكني أعتقد أننا إن صححنا هذا المفهوم فسيُحقق البعض منا ما يصبوا إليه .
ثُمّ إنّ مفهوم تجزئة الإسلام بحيث تركز الجهود على الجانب السياسي و يهمل باقي جوانب الحياة قد لا تتحقق به الدولة المدنية المنشودة .
فمحمّد عليه السلام أقام دولة خلال 23سنة في الجزيرة العربية ، كانت مضرب المثل في العدل والأخلاق والريادة في جميع جوانب الحياة ، لإيمانه التام بالهدف الذي يسعى إليه .
علينا أن نتجاوز مرحلة التفكير اللاوعي ـ عهد ألف ليلة وليلة ـ ، وأن ننهض بأمتنا فكريا وأخلاقيا ، تمشيا مع قول القائل : " قيموا دولة الإسلام في أنفسكم تقم لكم في أرضكم " .
فيا تُرى هل هذه المفاهيم قدمت حلا معينا ؟