النخبة والإعلام ومؤتمر تواصل../ الصديق بن أحمدُّو

لا يمثّلُ مؤتمَر دوري ينظمه حزب سياسي لتقييم أدائه وإعادة انتخاب هيآته حدثا كبيرا في الساحة السياسية بالنسبة للمجتمعات التي قطعت أشواطا على طريق الديمقراطية حتى ولو كان الحزب الحاكم نفسه؛ باعتباره روتينا ديمقراطيا معتادا ومُتطلبا قانونيا لا غنى لمصداقية الأحزاب وشرعية هيئاتها القيادية المستمدة من منتسبيها بالأساس.

وليس من الموضوعية أن نحكم على التجربة الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية الموريتانية من خلال المقارنة بينها وبين غيرها من الأحزاب العريقة في البلدان الديمقراطية؛ ولكن الرأي العام الوطني يبقى دائما بحاجة إلى المقارنة بين ديمقراطيات أحزابنا السياسية الموالي والمعارض على حد سواء؛ حتى يظل يمارس حقه في الرقابة عليها ويساهم في إثرائها بالنقد البناء والتقييم الجاد؛ بهدف إنضاج تجربة ديمقراطية لن تقدم له على طبق وإنما سيمنحها لنفسه من خلال مستوى وعيه وقدرته على مراقبة المشهد السياسي.

ومن هنا يكون دور النخبة المثقفة والإعلام بشقيه العمومي والخصوصي محوريا في تشكيل رأي عام يعي واقعه السياسي من كافة أبعاده وزواياه؛ حتى يصبح قادرا على المشاركة في بناء مختلف تجاربه عن دراية كافية تمكنه من الحكم الصحيح والكلمة الفصل الصائبة إلى أبعد حدٍّ ممكن.

لا شك أن ذلك هو ما يتمناه الجميع؛ ولكن لنا أن نتساءل ونحن نتابع المادة الإعلامية في وسائل الإعلام الوطنية بشقيها والمدونين عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الـ"فيسبوك" و"اتويتر" طيلة الأيام الثلاثة الأخيرة؛ إلى أي حدّ استطاع مثقفونا ووسائل إعلامنا الوفاء للرأي العام والتعاطي وفق المعايير المهنية مع المؤتمر الدوري الثاني لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية ـ تواصل ـ؟.

صحيح أن حضور وسائل الإعلام للمؤتمر كان كبيرا وأن صوّره تصدّرت واجهة الصحف والمواقع وصفحات المدونين من الشباب والمثقفين؛ لكن ما مضمون المادة الإعلامية التي تم تقديمها للقارئ والمتصفح؟ وهل صحيح أن الإيديولوجيا تحكّمت في النخبة والصحافة فكانت نظرتها إلى المؤتمر من زاوية محددة وقاصرة وموجَّهة؛ وبالتالي لم تستطع أن تَفِيَ للرأي العام بما يحِقُّ له أن يعرف عن الحزب ومؤتمَرِه؟

يستحق الرأي العام على النخبة المثقفة ووسائل الإعلام أن تقدم له تغطية عن مؤتمَر حزب تواصل بطريقة أكثر نضجا حتى تكشف له عن معلومات أهمّ حول هذا الحزب ليبني أحكامه عليه وفق معطيات وحقائق؛ خصوصا وأن هذا الإعلام نفسه والنخبة ذاتها لم تجد حرجا ـ ذات يوم ـ في نقل الشائعات التي يتناقلها خصوم تواصل والاتهامات التي يروجونها بحقه.

لقد برهن الحزب ـ رغم حداثة سنه مقارنة بغالبية الأحزاب السياسية الوطنية ـ على رسوخ قدمه في الساحة وامتداده إلى الأعماق وقدرته التنظيمية الفريدة؛ وعلى استيعابه وتمثُّله للقيم الإيجابية في العمل الديمقراطي؛ وعلى علاقاته الدبلوماسية الواسعة والمتميزة؛ فكان مؤتمره الثاني نوعيا بمقاييس عديدة؛ مع أن عمره لمّا يتجاوز الخمس سنين.

ـ فعلى مستوى الانتساب والعمق الاجتماعي الشعبوي حقق الحزب رقما قياسيا مرتفعا ويكاد يكون مثاليا؛ حتى بالمقارنة مع منتسبي الحزب الحاكم رغم فارق الإمكانات والوسائل؛ كما أنه يأتي تحديا للهجمات الإعلامية التي يتعرض لها حزب تواصل بشكل ممنهج من قبل السلطة الحاكمة.

ولعل الظاهرة الأبرز والجديرة بأن يُسلِّطَ عليها الإعلامُ الضوءَ هي في نوعية المؤتمرين؛ إذ كان من اللافت حضور الشباب والنساء بشكل كبير بالإضافة إلى تنوع المنتسبين بين مختلف مكونات الشعب؛ واستطاعت لجان التنظيم أن تضبط قاعات قصر المؤتمرات بدقة رغم أن عدد الحضور من المؤتمِرين وحدهم بلغ: 725 مؤتمِرا فضلا عن الحضور الكبير من غير المؤتمِرين يوم الافتتاح.

ـ وعلى مستوى استيعاب وتمثُّل القيم الديمقراطية قدم الحزبُ نفسَه مؤسسةً ذات هيئات قيادية متعددة؛ وحافظ على انعقاد مؤتمره فور انتهاء صلاحية هيئاته؛ رغم الواقع السياسي المعقد الذي يمر به البلد والضغوط التي يواجهها الحزب بسبب مواقفه من النظام باعتباره أحد أكبر الداعين إلى رحيله؛ كما برهن على أنه يمتلك منظومة قانونية على درجة كبيرة من النضج تحكم سير عمله وتحدُّ من تغوّل الهيئات القيادية وتجعل مساره السياسي ومواقفه من القضايا الكبرى والجوهرية محكومة بإرادة المؤتمِرين الذين أقرّوها أكثر من ارتهانها لإرادة الهيئات المنتخَبة.

ـ وعلى المستوى الدبلوماسي استطاع الحزب ولأول مرة في تاريخ البلاد أن يستقطب شخصيات وازنة في العالم الإسلامي وذات صيت عالمي كبير فتحضر لحفل افتتاح المؤتمر وتكرِم الوطن بزيارته واكتشافه؛ كان أبرزها الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية ود.موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس؛ فضلا عن شخصيات أخرى مهمة.

ورغم كل ذلك وغيره مما يستحق أن يقدم للرأي العام فإن نخبتنا المثقفة وعامة صحافتنا لم تفِ بدورها كما هو مطلوب ولم تلبّ حاجة المجتمع في أن يتعرف على مكوِّن بارز من مكوناته السياسية في هذه الفرصة والمناسبَة التي كشف فيها عن وعيه ونضجه السياسي.

والعجبُ أن الإعلام في اليومين الأولين انشغل بقضايا ثانوية كتركيز الحديث عن الرئيس المقبل للحزب في تجاهل تام للأبعاد الأخرى لأعمال المؤتمر والدرس الديمقراطي الهام الذي يقدمه حزب تواصل؛ ثم في اليوم الأخير ركز على قضية تنوع المتنافسين الثلاثة على رئاسة الحزب بين الجهات الكبرى الثلاث في البلاد؛ وهو ما ينبئ عن مستوى منحطٍّ ومتردٍّ وصلت إليه بعض وسائل إعلامنا الوطنية؛ بينما لم يستطع هذا الإعلام والنخبة المثقفة استخلاص نتيجة من المؤتمر بعد اختتامه ليقدموها للرأي العام سوى طرح السؤال: لمَ يجددُ التواصليون المأمورية لرئيسهم السابق؟!

اختتم مؤتمرو حزب تواصل مؤتمرهم في جو ديمقراطي فذٍّ؛ طبعه النقاش المفتوح لكافة الملفات والتقييم الجاد لأداء جميع الهيآت والقيادات؛ فقدموا للشعب الموريتاني درسا ديمقراطيا رائعا ومنحوا رئيسَهم السابقَ مأموريةً ثانيةً غيرَ قابلة للتجديد؛ ولسوف يخلّدها البلد في سجله تجربة رائدة وخطوة على طريق الديمقراطية الفعلية؛ ولن يغفر الرأي العام لمن يتلاعب بحقه ويحاول حجب الحقائق عنه.

25. ديسمبر 2012 - 1:16

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا